ربما لم تترك الأزمة الاقتصادية أي فئة اجتماعية أو مجالاً من مجالات الحياة في اليونان إلا وطاولته، وتكفي جولة في وسط أثينا ليظهر للزائر إقفال آلاف المحال التجارية وانخفاض عدد السيارات المستعملة في شكل يومي (مع انخفاض نسبة ضحايا حوادث السير بنسبة 30 في المئة). فيما يلجأ مستخدمو وسائل النقل العمومية إلى تداول التذاكر الصالحة، منهم بهدف التوفير بعدما ارتفعت أسعار هذه التذاكر في شكل ملحوظ أخيراً. وطاول الغلاء كل البيوت اليونانية، إذ رفعت شركات المياه والكهرباء أسعارها في شكل ملحوظ (30 في المئة لشركة الكهرباء)، وجاءت هذه الزيادات لتضرب مجدداً الأسر اليونانية بعدما كانت الحكومة فرضت ضريبة على العقارات المملوكة، أرهقت غالبية هذه الأسر، إذ ترافقت مع خفوض لافتة في الرواتب. واللافت أيضاً ازدياد معدلات الانتحار في شكل كبير، إذ لا يكاد يخلو أسبوع من عملية أو محاولة انتحار، يقوم بمعظمها رجال في الخمسينات والستينات، بعد تردي أحوالهم الاقتصادية وهم عاجزون عن السفر إلى الخارج لحل مشاكلهم شأن الشباب. كما أن قدرتهم على بدء أعمال جديدة واكتساب مهارات جديدة شبه معدومة. هجرة ... إلى القرى من بين الحلول التي لجأ إليها الشباب، كان العودة إلى المناطق الزراعية اليونانية والتحول إلى مزارعين في هجرة عكسية، بعدما عرفت اليونان في العقود الماضية استنزافاً بشرياً من الأرياف والجزر في اتجاه أثينا والمدن الكبرى، بحيث أصبحت غالبية العاملين في قطاع الزراعة من الأجانب. وكشف بحث لمركز الإحصاء الوطني اليوناني، «زيادة في عدد المزارعين نسبتها 8 في المئة أي 60 ألف شخص خلال عام 2010». ولفت إلى أن «غالبيتهم تزرع المنتجات البيولوجية الخالية من المواد الكيماوية، كما يسجل قطاع تربية المواشي زيادة ملحوظة». ويُتوقع من حركة الهجرة المعاكسة هذه «إحياء قرى ومناطق خارج المدن الكبرى كانت تحوّلت في الأعوام الماضية إلى مساكن للعجائز والمتقاعدين». ولاحظ متابعون، أن اليونان وبعدما رحل عنها بعض المصانع التي كانت تمثل الصناعات المتوسطة، لم تبق لها إلا قطاعات الزراعة والبحرية والسياحة والخدمات لإنقاذ اقتصادها، طبعاً في حال وجود الخطط الناجحة تطبقها الحكومة المقبلة بأسلوب صحيح. وأثرت الأزمة في مزاج الشباب اليونانيين في حركتهم اليومية، إذ بات كثر منهم يفضّلون التنقل على دراجات هوائية، بدافع التغيير والرياضة والحفاظ على البيئة، كما لا يغيب العامل الاقتصادي عن هذا التغير، إذ سُجلت زيادة في الكمية والنوع في محال بيع الدراجات الهوائية. فيما يشهد نهاية الأسبوع خروج الآلاف منهم في مسيرة مسائية للترويج لهذا النشاط في مدينة ليست الأفضل لجهة ملاءمة الطرق لهذا النشاط. وبدا تأثير الأزمة واضحاً كذلك في القطاعين الإعلامي والثقافي، إذ أقفلت قنوات تلفزة وصحف ومجلات، فيما اضطر بعض الصحف إلى متابعة الصدور عبر الشبكة الالكترونية لتخفيف أعباء الطباعة، فضلاً عن إغلاق دور نشر كبيرة كانت تملأ اليونان بمئات الكتب سنوياً. وفي المدن الكبرى بدأت مئات الأسر تبحث عن توفير نفقاتها إلى أقصى حد، وسجلت هذه المدن حركة انتقال من البيوت الكبيرة والإيجار المرتفع إلى بيوت أصغر مساحة وأقل كلفة، ومن مناطق مرتفعة الأسعار إلى مناطق شعبية. ورحلت مئات الأسر من المدن في اتجاه القرى حيث تملك بيوتاً تركتها منذ سنوات أو كانت تزورها في عطلة الصيف. وبعدما كان العثور على منزل في أثينا من الأمور المرهقة التي تحتاج إلى أشهر من البحث أحياناً، خلت آلاف المنازل من مستأجريها خصوصاً مع رحيل آلاف الأجانب عن البلد بعدما فقدوا أعمالهم، وبات مالكوها أمام خيارين أحلاهما مرّ، إما تأجيرها بمبالغ أقلّ أو تركها خالية لفترة غير محددة. حركات تضامن الوجه الإيجابي للأزمة ظهر في حركات التضامن الاجتماعي التي بدأت تنتشر وتطبق أفكاراً ومشاريع بسيطة، لكنها تبدو ناجعة نوعاً ما، وأشهرها كان حركة المنتجات الرخيصة التي تعتمد على التواصل المباشر بين المنتج والمستهلك، وحركة الأسواق التبادلية التي تعتمد على تبادل الخدمات والسلع وتستغني عن النقود، إضافة إلى تبرع ناشطين بدروس مجانية للأسر الفقيرة. الأزمة أظهرت الوجه السلبي لليونانيين، إذ أعلنت وزارة العمل أنها كانت تخسر شهرياً بين 750 ألف يورو و850 ألفاً، كانت تذهب إلى مواطنين لا يستحقونها، مثل المرضى والمقعدين وفاقدي البصر الوهميين والمهاجرين في الخارج والمتقاعدين المتوفين الذين يستمر أبناؤهم في تقاضي معاشاتهم التقاعدية عبر التحايل. كما برزت آلاف حالات الولادة الوهمية (معظمها توائم) لنساء تقاضين مساعدات من صناديق التضامن الاجتماعية. وتحتاج صناديق التأمين الاجتماعية إلى نحو 1.2 بليون يورو كدعم شهري من الدولة لتغطية معاشات المتقاعدين. ويمثل هذا المبلغ 45 في المئة من النفقات الشهرية لهذه الصناديق. فيما تبقى مدينة في شكل دائم للأطباء والصيادلة، الذين أضربوا أخيراً رافضين إعطاء المضمونين في هذه الصناديق أدويتهم بالتسليف، في انتظار أن تدفع لهم الدولة مستحقاتهم. ولعل أسوأ وجوه الأزمة الاقتصادية كان سطوع نجم الجماعات العنصرية التي تتخذ من الحالة الاقتصادية حجة لتعطي لنفسها مبرراً لطرد الأجانب من البلد على طريقتها الخاصة. وتشهد اليونان هجمات دامية ضد أجانب مهاجرين وطلاب لجوء، أدت في معظم الأحيان إلى إلحاق الأذى بالمهاجرين، وفي أحيان أخرى إلى وفاة بعضهم. الاقتصاد أخيراً، هو النقطة الحاسمة التي تتفق وتختلف عليها الأحزاب السياسية في انتظار الانتخابات المقبلة، والمسألة الاقتصادية تقدمت على الناحية السياسية كثيراً، ولعل التهديدات البريطانية بإقفال الحدود أمام اليونانيين في حال خروج بلدهم من منطقة اليورو، أكبر دليل على أهمية أن يجد السياسيون اليونانيون حلاً لأزمة بلدهم الاقتصادية.