من مأثور العرب أن «ثلاثةً تصونُ الملك: الرأفة والعدل والجود». نذكر ذلك لمناسبة الاحتفال بمرور ستين عاماً على تبوّؤ الملكة إليزابيث الثانية عرش بريطانيا، احتفال نابع من أعماق الشعب البريطاني بكل فئاته، إذ خرج أكثر من مليون مواطن إلى شوارع العاصمة لمدة ثلاثة أيام يهللون ويهتفون باسم سيدة بلغت الثمانية والثمانين من العمر، لا حول ولا سلطان لها سوى كونها رمزاً يوحّد الأمة البريطانية ويرتفع بالأمة والشعب والحكومة والمؤسسات الدينية والمدنية فوق اعتبارات الاختلاف، لتلتقي جميعها في دعم سيادة القانون، الذي يضمن لكل بريطاني الحرية ضمن مبادئ النظام الملكي البرلماني القائم أساساً على مبادئ المجتمع المدني وحقوق الإنسان. كان منظر الحشود خارج قصر بكنغهام وهي تجهر بولائها لتلك السيدة الجليلة، منظراً مؤثراً، واتسم كل شيء بعاطفة فريدة وكأن الشعب البريطاني بأسره يخاطب الملكة المحبوبة مردداً كلمات ولي عهدها الذي خاطب والدته في كلمة شكر افتتحها بقوله «يا أمي». لقد كانت الملكة «أمّاً» حقيقية لبلد عانى ما عانى وصمد بفضل ذلك الرمز الصامد المتسم بالوقار الحقيقي وبالإخلاص النابع من ايمان عميق بأن القائد الحقيقي هو الخادم الأمين لكل مواطن من المواطنين. ولم يفت الأمير تشارلز أنْ يؤكّد ان ما قدمته والدته الجليلة من خدمات لشعبها شاركها فيه زوجها الأمير فيليب البالغ من العمر 91 عاماً، والذي أصابته وعكة اضطرته للزوم سرير المستشفى بعد ذلك اليوم الممطر الذي وقف فيه الامير فيليب ساعات لاستعراض مئات السفن على نهر «التايمز» تكريماً للملكة. ولعل أبرز ما يلفت النظر في المناسبة، كيفية محافظة بريطانيا على تراثها الوطني، محولة تقاليدها الخالدة من طقوس رمزية إلى مظاهر معاصرة حفظت للملك وقاره واحترامه وأعلنت عن تبنّيها القيم المعاصرة من الديموقراطية ومعاني الوحدة والاتحاد في التنوع والتعدد، ذكر الأمير تشارلز هذا الأمر في حديثه، كما أشار إلى ما يعانيه أفراد الشعب في هذا الزمن المليء بالتحدّيات، واكد ان الاسرة المالكة بأسرها تشارك شعبها في كل ما يمر به من معاناة. وفي ختام الاحتفالات، تحدثت الملكة لتشكر بلسانها ولسان زوجها الامير فيليب الشعب البريطاني بكل فئاته على ما عبر عنه من مشاعر التقدير والإكرام، حتى أنّها قالت: «ان ما عبرتم عنه يملأ نفسي بالتواضع»، وكانت تعني جيداً ما تقول، والمعنى الحقيقي لما قالته الملكة هو: «لولاكُم لما كنت ولما كانت المؤسسة الملكية التي تفضلتم بتكريمها اليوم». كان الاحتفال الشعبي الصادر من القلب، تثبيتاً لدعائم العرش البريطاني وتكريساً جديداً له كعرش قائم أساساً على خدمة شعبه ورفع شأن البلاد وبعث مجد جديد يقوم أساساً على «الرأفة والعدل والجود». ولعل الدور الذي قام به ولي العهد الأمير تشارلز في هذه الاحتفالات كان بمثابة اعلان ان وريث هذا «العرش» خير مَن يضمن لبريطانيا قيادةً حكيمة قائمة اساساً على الاعتراف بالآخر والتمسك بالمبادئ الروحية التي تؤلف بين الأديان جميعها، والعمل الدؤوب على تشكيل مجتمع إنساني بكل معنى الكلمة، يأخذ في الاعتبار الصحة والزراعة والهندسة المعمارية ومبادئ التعليم والتربية الحقيقية، وتآلف الحضارات بدل تصارعها، والمحافظة على البيئة وسلامتها. ولعل كتاب الأمير تشارلز الصادر باللغة العربية عن دار الساقي في بيروت في عنوان «صاحب السمو الملكي الأمير تشارلز يتحدث» خير مصدر للتعرف على ملك بريطانيا المقبل، ففي الكتاب الصادر عام 2010 نجد صوت الأمير تشارلز ينادي بالتعددية والسماحة والسلام، ليس في بريطانيا فحسب، بل في كل انحاء العالم، وأوحت أحاديثه وخطبه المجموعة في الكتاب الى العديد من الناس الأمل والشعور بالاطمئنان وإمكانية تآلف الاديان والثقافات في كل مكان. * استاذ في جامعة ميريلاند الاميركية ومنشئ كرسي جبران خليل جبران