حين حقق المخرج البولندي الكبير اندريه فايدا بين أواخر سبعينات القرن الماضي، وبداية ثمانيناته، فيلمين على الأقل بدوا «انشقاقيين»، اي ميالين الى أطروحات نقابات التضامن، بالتضاد مع السياسة الرسمية الحكومية في بلده، قال كثر ان فايدا «انشق» عن المواقف السلطوية وعن الأيديولوجية الشيوعية السائدة التي «طالما دعمها في الماضي» بأفلامه التي مثلت السينما البولندية خير تمثيل خلال العقود السابقة وجعلته عميد تلك السينما، وأحياناً «الحاجز» الذي يقف في وجه انبعاثات سينما شابة اكثر ميلاً للنقد تجاه ما هو سائد. والحال ان الذين قالوا مثل هذا الكلام كانوا من دون أدنى شك، غير مطلعين تماماً على سينما فايدا، بل يكتفون بالنظر اليها عبر مرشّح التقديم الرسمي لها لا أكثر. ذلك ان سينما فايدا كانت، في حقيقتها ومنذ زمن بعيد، سينما أقرب الى الانشقاق على الأيديولوجيا الرسمية، من دون ان تصطدم معها تماماً: بالأحرى كانت سينما ناقدة، لا تكفّ عن إبداء شكها في كل شيء وفي اي شيء. وهي على هذا الأساس حوربت كثيراً وطويلاً، إنما من دون ان تصبح تلك الحرب قطيعة بين السينمائي والسلطات الرسمية. ومن يتابع سينما فايدا، منذ بداية ظهورها على الساحة العالمية لا يمكنه الا ان يلاحظ هذا الأمر، وأن يدرك ان بعض افلام فايدا، كان أشبه بتمهيد - انما حذر بعض الشيء - لسينما الموقف الانشقاقي التي حققها ما ان برزت انتفاضة «التضامن» واحتدت المعركة بين الستالينيين الجامدين وبين الذين يريدون تغييراً، ثم أوصلها خلال الأعوام الأخيرة الى ذروة لم تكن متوقعة حين حقق فيلمه الكبير «كاتين» عن تلك المجزرة التي ارتكبها الجيش الأحمر السوفياتي «الشقيق» في حق العشرات من شبان مدرسة للضباط في بولندا إبان الحرب العالمية الثانية، بيد ان هذه حكاية أخرى لا تعنينا كثيراً هنا. ما يمكن ان نقوله هنا هو ان سينما فايدا فتحت في هذا المجال ومنذ البداية خطاً ثالثاً، اذ ان الرجل في أفلامه الأخيرة قبل انهيار النظام الاشتراكي تماماً، انتقد السلطات السائدة وأكاذيب البناء الاشتراكي، من دون ان يترك لنفسه مجالاً للوقوع في فخ «المعارضة اليمينية» «المتأمركة» التي كانت قطاعات واسعة من «التضامن» تمارسها. في اختصار، وضع فايدا نفسه في موقف على يسار الحكم الستاليني، لا على يمينه. ولم تغره في ذلك السبيل، لا مواقف الكنيسة الداعمة للتضامن، ولا مواقف القوى الفاشية التي كانت تشكل جزءاً من «التضامن». وفي هذا الإطار، يصح القول ان أندريه فايدا انما كان يعبر عن قطاعات عريضة من مثقفين ومبدعين بولنديين خيّبت الممارسات الستالينية آمالهم بعدما كان التقدم رائدهم ورسالتهم. وحسبنا اليوم للنظر في هذا، ان نعود الى واحد من أفلام فايدا القديمة، اي الى فيلم «رماد وماس» الذي كان ثالث افلامه، والفيلم الذي ساهم في تعريف العالم به وبإبداعه السينمائي للتيقن من هذا. لعل أغرب ما يمكن ان يقال حول «رماد وماس» هو انه حين عرض ثم خلال سنوات طويلة بعد ذلك، جوبه بصمت ذي دلالة في المعسكر الاشتراكي بينما راحت المهرجانات الغربية (البندقية، باريس، سويسرا، ألمانياالغربية)، تغدق عليه جوائزها... بينما كان فيلمه السابق «كنال» نال في الوقت نفسه جائزة كبرى في «كان» وجائزة أكبر منها في «موسكو». المهم ان «رماد وماس» حقق في عام 1958، وكان مفاجأة حقيقية، من ناحية قوة تعبيره السينمائية... ولكن بخاصة من ناحية تعبيره الفكري... ذلك ان هذا الفيلم، اذ أتى في زمن كان كل الفن «الاشتراكي» ينطلق من افكار يقينية ومن نظرات انتصاروية شديدة السذاجة ضمن اطار البطولات الجماعية والبطل الايجابي وما الى ذلك من افكار جدانوفية، اتى - اي «رماد وماس» - مختلفاً: أتى كثير الشكوك، حافلاً باللايقين، غير واثق من اي نضال ومن اي موقف: أتى قريباً من افكار كامو مثلاً... فما هو الشيء الذي أراد هذا الفيلم ان يقوله؟ للجواب سنستعير عبارة وردت في «كاتالوغ» رسمي أصدرته مؤسسة السينما البولندية، لأفلام فايدا... اذ ان هذا «الكاتالوغ» يعرّف «رسالة الفيلم» على الشكل المفاجئ الآتي: «يعتبر هذا الفيلم كلاسيكياً في انتمائه الى المدرسة السينمائية البولندية، وهو يشكّل صورة مرة للجيل الضائع، ذلك الجيل المؤلف من شبان ناضلوا في الجيش الوطني السري خلال الحرب ضد النازيين، لكنهم بعد ذلك لم يتمكنوا من التكيف مع الواقع الشيوعي الذي ساد البلاد بعد الحرب». ويقيناً ان هذا التعريف يكاد يقول كل شيء عن هذا الفيلم، الذي هو، في اختصار اكبر: صورة لمعركة مملوءة بالشكوك... تبدأ أحداث «رماد وماس» إذاً في ايار (مايو) من عام 1945، حين أخذت بولندا تفيق لتوّها من ليل الاحتلال. ولكن بعد فرحة اندحار النازيين الأولى، أتت ارتباكات الواقع. ذلك ان الصراع لم ينته، بل ها هو انتقل ليصبح صراعاً بين حزب العمل (الاشتراكي الموالي لموسكو)، وبين القوى القومية الرجعية الموالية للنظام القديم. وهنا يتخذ الصراع شكل مهمة يكلف اثنان من مناضلي الحزب القومي بتنفيذها: اغتيال مسؤول حزبي شيوعي. اما المناضلان فهما ماشيك وأندريه اللذان كانا ناضلا طويلاً ضد النازيين، ولكن من دون ان يفهما ان الآتي سيخبئ لهما مهمة من هذا النوع. وهكذا إزاء هذا الواقع الجديد يبدأ ماشيك بإبداء تذمره من اضطراره الى ان يواصل النضال ويظل مستنفراً، متسائلاً حتى متى سيظل هكذا. وماشيك في الوقت نفسه يبدو وقد كف عن الايمان بقدسية القضية التي عليه ان يواصل الحرب من أجلها، هو الذي كان يفضل ألف مرة ان يذوق الحياة ويتذوق أفراحها مع حبيبته كريستينا، النادلة في مقهى، والتي كان لوقوعه في غرامها أثر كبير في انقلابه الانساني هو الذي يتساءل ايضاً: ترى ما الذي حوّل القائد الشيوعي الى عدوّ له الآن، بعدما كان حليفاً خلال القتال ضد النازيين؟ بالنسبة الى ماشيك، هي السياسة التي لا دين لها ولا مبدأ. السياسة التي ما كان ليخيل اليه لحظة انها ستلقي بثقلها عليه الى هذه الدرجة. وإذ يحاول ماشيك التنصل من المهمة الجديدة، يكون اندريه رفيقه هناك في انتظاره لتذكيره بواجبه الوطني. فما العمل؟ لا يجد ماشيك مناصاً من القيام بالمهمة فيقدم على تنفيذها في الوقت نفسه الذي يكون السياسيون غارقين في لهوهم غير آبهين بمشاعر المناضلين الصغار، ولا بقلق هؤلاء ولا بأسئلتهم. هؤلاء عليهم الانصياع الى «القضايا المقدسة» من دون ان يسألوا انفسهم اي اسئلة عن جدواها وعما إذا كانت تستحق التضحية بالذات او بالآخرين من اجلها. اما ماشيك فإنه، بعد ان ينفذ المهمة، يقتل متدحرجاً فوق كوم من النفايات، في مشهد له كل دلالاته عليه ينتهي الفيلم. صحيح ان أندريه فايدا، من الناحية الشكلية، جعل المناضل الشكاك، معادياً للشيوعية كما جعل الضحية مسؤولاً شيوعياً، غير ان هذا الغطاء المزدوج لم يمنع الرسالة من ان تصل في عموميتها وحدتها، وإشارتها الى المناضلين الصغار في مواجهة الكبار. والى القضايا في مواجهة الأفكار البريئة... وهذا الوضوح كان له أثره اذ ان هذا الفيلم حورب كثيراً، وفتح أعين السلطات على أندريه فايدا، ما جعله يقدم تنازلات في افلام لاحقة له. وأندريه فايدا، الذي يقترب اليوم من عامه الخامس والثمانين، يعتبر عميد السينما البولندية، كما أشرنا، منذ حقق فيلمه الاول «جيل» في عام 1954، ليحقق من بعده، وطوال نصف قرن عشرات الافلام التي جعلت غالبيتها للسينما البولندية مكانة كبيرة في الخارج. كما جعلت لفايدا نفسه مكانة بين كبار مبدعي السينما الأوروبية. ومن هذه الافلام عدا ما ذكرنا «لوتنا» (1959) و «كل شيء للبيع» (1969) و «مشهد بعد المعركة» (1970) و «اعراس» (1972) و «أرض الوعد الكبير» (1975) وصولاً الى «رجل المرمر» و «رجل الفولاذ» و «قائد الأوركسترا» في زمن انتفاضة «التضامن» وهي الأفلام التي جعلت العالم الخارجي على تماسّ حقيقي مع القضية البولندية وجوهرها خارج إطار ما كان يقوله الإعلام الرسمي والإعلام المناهض له قبل ان يتبيّن انهما انما كانا وجهين لعملة واحدة. [email protected]