أياً كان توجه المثقف وحقله الذي يعمل فيه، فإنه يتحمل مسؤولية الكلمة، إذ يفترض أنه صاحب رسالة وهدف يسعى من خلال ثقافته الوصول إلى هذا الهدف وإيصال تلك الرسالة. ومع نبل الأهداف وسمو الرسائل، فالمثقف الصادق هو أحرص من غيره على ممارسة النقد الذاتي، وسماعه من مصادره. لكل الأخطاء والمغالطات التي يرتكبها في المناهج والوسائل والخطط غير المدروسة والمرتجلة، أو غير المتناسقة مع الواقع وتحولاته، التي يذهب ضحيتها المجتمع المتلقي بأطيافه كلها. لا أريد أن أحاسب المثقف أو أدقق عليه، ولكن الذي أريد قوله وحكايته أن الضحية لثقافة الفوضى، ليس المجتمع المتلقي فقط! ولكن أبرز الضحايا وأخطرهم هو المثقف نفسه! إذ يفقد صدقيته ويتحول إلى فقاعات في الفضاء. والعامل لتجلي هذه الحقيقة هو الزمن. ولقد شاهد العالم هذا التحول وعاش المتلقي أزمة الثقة بمثقفيه، وكشف الإعلام عن عورات. فلماذا؟ ونحن في مرحلة تعتبر بدائية إذا ما قيست بالتقدم الثقافي العالمي! وكيف الحل لهذه المشكلة الآخذة في الاتساع؟ هذا التساؤل والمحاولة في المعالجة لن يكون مسؤوليتي ككاتب مقالة، ولكنه أمر يستدعي مراجعة شاملة يشارك فيها صنّاع القرار وحملة الأقلام ومنابر الإعلام، وتستحق عقد اللقاء والمؤتمر، لأن بناء الثقة في الثقافة لو انهدم بمعول المثقف فستكون الخسارة كبيرة لا تغني فيها الترميمات والتحسينات، هنا سأشارك بطرح الرأي حول هذه الحال «أزمة صدقية المثقف» من أين نشأت؟ وما الحل؟ أما النشأة فمن: 1- تراكمات موروثة لأخطاء في التركيبة الثقافية لحظة تأسيس المدارس والعلوم، ومن يوظف من؟ في تلك المرحلة، ثم تحولت تلك التراكمات إلى أشبه بالأيديولوجيات والمقدسات، رافق ذلك عدم الرغبة في التحديث والتطوير والتفكيك وتعدد القراءات، وربما وصل الأمر إلى اعتبار محاولات مثل تلك «زندقة وردة» أو اعتبارها ضعفاً في الولاء والانتماء، أو لاعتبارات أخرى من أبسطها وأصدقها أننا قوم وجدنا آباءنا على أمة ولم نتعود على التغيير والمراجعات. 2- المثقف الجديد وجد نفسه أمام تلك التراكمات من جهة، وبين الوقائع المتلاحقة من جهة أخرى، فتخلقت أمامه ثنائيات خطرة في «التراث والمعاصرة»، «القدامة والحداثة» و... وقد تفاجأ بما لم يفكر فيه وهو يعتبر نفسه إصلاحياً بثقافته فخنقته الثنائيات وقذفت به في ثنائية أشد خطراً وهي «الانتماء أو الارتماء»، ليفقد بذلك منهجية الاعتدال والتوسط، وهكذا أصبحت أوراقه مخلوطة يطالب بكل شيء ويمانع كل شيء، أي: يتناقض في كل شيء، وكانت مخرجاته الثقافية تعيش التصادم بين أولها وآخرها في عمر لا يتجاوز السنوات ذوات العدد، ما يجعل من الصعب تقبل الاعتذار المقدم على هيئة مراجعات، بل لا نفسر ذلك إلا بالنزق والفوضى وحب الظهور ولو على مسرح الإصلاح وإذاعة التقوى وتلفاز العز. بهذا نحن أمام مشكلة اجتماعية وثقافية في آن، وهذه المشكلة من إنتاج الثقافي نفسه، فما الحل؟ وهل ننتظر من عقلية المشكلة ذاتها أن توجد لنا حلاً؟ إننا لن نستفيد من عقلية المشكلة أكثر من الاعتراف الصريح بالمشكلة، لعل وعسى هذا الاعتراف يوقف الانحدار ليتمكن المصلحون من التفكير وإعادة التشكيل. الحل من رؤيتي أوجزه في نقاط أشبه بالخطوط العريضة، مطروحة للتفكيك والقراءة والمداولة والرد والنقض... وكل ممارسات النقد الحر: أولاً: إحياء دور المؤسسة الثقافية الرسمية، والانتقال بها من الإدارة إلى الممارسة، وتكوين طواقمها القيادية من المهتمين لا من الموظفين، أي الذين يعملون بروح المثقف لا بنفسية الموظف. ثانياً: تخصص المثقفين من واقع إنتاجهم لا من واقع تحصيلهم الأكاديمي، لأن جامعاتنا، مع الأسف، لم تعد مقياساً كافياً، فالطلاب يحشرون إليها طلباً للوظائف لا للعلم، والمطالب بهذا التخصص أكثر من غيره هو المثقف نفسه، لأن يكتشف ذاته ويتعرف على قدراته وإمكاناته وحقوله التي يتحرك فيها، وعليه أن يتوقف عن الانجرار وراء محترفي الإعلام ومقدمي البرامج، وفي مقابل ذلك عليه أن يبرز نفسه من خلال قوته العلمية واحترافيته في إيصال الرسالة بكل ثقه من دون أن يلون حديثه بالنكهات. ثالثاً: بناء الثقة بين المثقف والمثقف، وإحياء روح التعاون والتكامل في حياتهم الثقافية، وتلك هي أعظم البُنى التحتية التي تسجل في تاريخهم وتنطلق منها أجيال لاحقة. رابعاً: الكل يقول بتقبل النقد لكن واقع الحال لا يوحي بذلك. إن نقد المثقف يجب أن يمارسه المثقف تجاه ذاته، ويمارسه المثقف الآخر المتفق أو المختلف، ويمارسه المتلقي أياً كانت منزلته، وفي غياب النقد أو غياب آلياته أو أخلاقياته، أو محاولة مواجهة النقد بالتبريرات أو الردود فإن ذلك يهدد الجوهر الثقافي. خامساً: على المثقفين بناء مؤسسات غير رسمية ترعى الثقافة أياً كان توجهها وتدعمها، على ألا تتحول فكرة المؤسساتية لخدمة شخصية الرمز باسم المؤسسة، وليكن من أهم مهمات المؤسسة بنك معلوماتي متجدد يوفر للمثقف المرجعية الداعمة لمقولاته ومكتوباته، فلم تعد تجدي المصادر كقصاصة من صحيفة أو حدثني أحدهم... ونحوها! وليكن أيضاً من مهمات المؤسسة رعاية المثقف الجديد، رعاية لا وصاية يتخرج منها واعياً بمسؤولياته منطلقاً بقيمه وأخلاقياته إلى عالم ينتظر. [email protected] alduhaim@