لقد تم احتواء الصدامات المسلّحة التي خلّفت عدداً من القتلى والجرحى في لبنان في الأسابيع القليلة الفائتة، آنيّاً، غير أن مخاطر التأثر بالأزمة السورية لن تضمحل، بل ستتزايد. فظهورُ ملاذ آمن غير مُعلَن ل «الجيش السوري الحرّ» في شمال لبنان يشكّل معضلةً صعبةً بالنسبة إلى حكومة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي. المؤشرات واضحة. لقد تلقى المسؤولون اللبنانيون تحذيرات عدة من سورية، تُطالِب بوقف تدفق الثوار والأسلحة عبر الحدود المشتركة. وينقل الإعلاميون الذين يحظون بإمكانية الالتقاء بصانعي القرار في دمشق، رسالةً مفادها أن سياسة حكومة ميقاتي بالنأي بالنفس، أي سياسة الحياد الرسمي، لم تَعُد مقبولة لأنها لا تمنع استخدام شمال لبنان كقاعدة دعم وانطلاق ل «الجيش الحرّ». جاء المؤشر العلني الأوضح حتى الآن على النوايا السورية عن لسان رفعت عيد، رئيس «الحزب العربي الديموقراطي» المناصر لسورية، والشخصية السياسية الأبرز بين علويّي مدينة طرابلس، الذين تعرّضوا لهجمات المسلّحين السنّة المحليين، يدعمهم الثوار السوريون المطاردون بحسب بعض المصادر. فقد تنبّأ في منتصف أيار (مايو) أنه «في حال دخلنا في المجهول، سيتدخّل جيش عربي... الأممالمتحدة ستطلب من الجيش السوري الدخول إلى شمال لبنان وحلّ الموضوع فيه لأنه أعلم وأخبر من كل الجيوش العربية في هذا الأمر». إن عيد هو شخصية هامشية في المسرح السياسي اللبناني، لكن التدخّل السوري في عام 1976 ابتدأ بالتسلسل نفسه: تحذيرات وجّهها الرئيس السوري حافظ الأسد مباشرة إلى قادة منظمة التحرير الفلسطينية واليسار اللبناني. إشارات علنية سرّبها مسؤولون وإعلاميون فلسطينيون ولبنانيون متصلون بالنظام السوري، والزعم بأن سورية تستجيب لمناشدة القادة المسيحيين بحماية طوائفهم. وحين فشلت هذه الرسائل في تحقيق المطلوب، دخل لواء مدرّع سوري إلى لبنان وتموضع على بضعة كيلومترات من الحدود، تلته القوات المجحفلة بعد مرور شهرين إضافيين. تقف عوائق عدة أمام تكرار التدخّل السوري في عام 2012. فالجيش السوري منهمك في داخل سورية، وليس في وسعه توفير الجنود، أو الدروع، بسهولة للتدخّل في لبنان. والواقع هو أن إقامة «ممر إنساني» لحماية علويّي منطقة جبل محسن في طرابلس سوف يتطلّب السيطرة الميدانية على باقي المدينة وعلى منطقة عكار، وهي مهمّة محفوفة بالمخاطر، ما يجعلها مستحيلة. يُضاف إلى ذلك احتمال تزايد حالات الانشقاق عن القوات السورية المتدخِّلة، إلا إذا تم استخدام الوحدات مضمونة الولاء للنظام، علماً أنها تقوم بالدور الأساسي في مجابهة الثورة داخل سورية على ما يبدو، وبالتالي يصعب تحويلها نحو مهام جديدة في لبنان. إلا أن النظام السوري قد يعتبر أن عملية متواضعة الحجم ومختصرة المدة توفر له فائدة الردع: عبر تنبيه القادة السياسيين والمجتمع حيال الثمن المحتمل الذي سيدفعه لبنان إذا استمر إيواء الملاذ الآمن للثوار السوريين، وعبر إظهار عزم النظام وروحه القتالية بغية ردّ الدول المجاورة الأخرى عن أي تفكير في إقامة ملاذات آمنة إضافية لديها. فقد يشكّل تدخّل عسكري محدود في شمال لبنان نوعاً من «البروفة»، أي الاختبار الحي، للنزاع المسلّح الأوسع الذي قد ينشب في حال انتقلت الأزمة السورية إلى حالة الحرب الأهلية الكاملة أو استعداد «أصدقاء سورية» للقيام بتدخّل عسكري خارجي. وثمة فوائد أخرى، من وجهة نظر النظام السوري. فلا بد أن تدين الولاياتالمتحدة أي عبور سوري للحدود اللبنانية، ولكن سيتأثر موقفها أيضاً بقلقها، الذي تشاركها فيه الحكومات الغربية الأخرى، إزاء الظهور المزعوم للقوى الجهادية التكفيرية المتّصلة بتنظيم «القاعدة» في منطقة طرابلس. كما أن الميل الأميركي التلقائي المحتمل نحو دعم الجيش اللبناني سوف يصطدم بالتحفّظ الأميركي على التعامل الوثيق مع حكومة يتمثّل فيها «حزب الله». أما روسيا، فالأرجح أن تعتبر عملية سورية محدودة دفاعاً مشروعاً عن النفس، على رغم التصريحات الأخيرة لوزير خارجيتها التي حمّل فيها النظام السوري المسؤولية الرئيسة عن سيل الدماء في سورية. هذا، ولن تقلّ ردود فعل الجيران الآخرين عن ذلك تعقيداً. والمؤكّد أن تعترض تركيا بشدّة لو حصل تدخّل سوري في لبنان، ولكنها هي التي تدخّلت عسكرياً مراراً في شمال العراق لتطارِد ثوار «حزب العمّال الكردستاني»، وقد تحتفظ بالحقّ بمطاردتهم كذلك في شمال سورية حيث يزداد تواجدهم. أما العراق، الذي يترأس مجلس وزراء خارجية جامعة الدول العربية حالياً، فيعاني من صراعه هو أيضاً مع المسلحين السنّة، وتشير المصادر الصحافية إلى قيامه بتبادل المعلومات الاستخباراتية مع الأجهزة السورية حول تسلّل الجهاديين من أراضيه إلى سورية. والأردن، الذي كان ملكه أول زعيم عربي يدعو الرئيس السوري بشار الأسد إلى التنحّي قبل سنة، يُقيِّد تسرّب الأسلحة المُهرَّبة عبر حدوده، وقد شهد نمواً في تبادله التجاري مع سورية منذ إقرار المقاطعة الاقتصادية العربية في تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت. سيكون إذاً الوقع الأكبر لأي تدخّل سوري على الوضع السياسي الداخلي الهشّ في لبنان. ويبدو أن الطبقة السياسية اللبنانية متّفقة حتى الآن على منع انفجار الاحتقان الطائفي ووقف الانطلاق نحو العنف. ويأتي الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس ميشال سليمان في 11 حزيران (يونيو) في الوقت المناسب، لكن يترتّب عليه الخروج بأكثر من الاتفاق على مبادئ سياسية عامة. بل يجب أن يولِّد تفاهماً صريحاً، إن لم نَقُل إجماعاً وطنياً، على كيفية معالجة الأزمة السورية والملاذ الآمن في الشمال. وفي غياب ذلك، سوف تزداد احتمالات التدخّل السوري، وإن كان لن يحصل قريباً، وسوف يقترب لبنان أكثر من النقطة التي ينقلب فيها ميزانه الداخلي الدقيق. * باحث أول في مركز كارنيغي للشرق الأوسط - بيروت