أخيراً انتشر عناصر من الجيش اللبناني في «الشريط الحدودي» (غير المنزوع السلاح) بين باب التبانة وبعل محسن، الحيين المتواجهين في مدينة طرابلس، شمال لبنان. وهو كان انتشر سابقاً مرات عدة، من غير أن يتمكن من تثبيت الهدنة بين مسلحي الحيين، رغم أن جميع فعاليات المدينة تدعوه دائماً إلى فرض هذه الهدنة، وترفع الغطاء السياسي عن المسلحين الذين تقاتلوا، منذ الحرب الأهلية، على جانبي «الشريط» المسمى رسمياً شارع سورية. ليس اسم خط التماس فقط ما يجعل هذه المنطقة التي يعيش سكانها في فقر مدقع وظروف حياتية غاية في الصعوبة على علاقة ما بسورية. وإنما كانت الجارة الشرقية للبنان، دائماً وفي شكل مباشر، في صلب المواجهة بين بعل محسن وباب التبانة، وطرابلس عموماً، منذ أن دخلت القوات السورية إلى لبنان بعيد اندلاع الحرب الأهلية، وتحت عناوين كثيرة ومختلفة. لكن الثابت في كل ذلك، أن السلاح كان يُستخدم بكل أنواعه، وأن المواجهات كانت تنشب بين سكان بعل محسن، ذي الغالبية الطائفية العلوية، وبين سكان طرابلس، ذي الغالبية السُنية. ما يعني أن الأزمة الحالية في سورية، وتضامن السُنة في طرابلس مع المعارضة السورية ليست السبب في اندلاع القتال الأخير، وإن كانت العذر الذي فجره، وأن الوضع في طرابلس حالياً ليس نتيجة وجود التيارات السلفية، وإن كان مثل هذا الانتشار السلفي يعقد الحلول لمشكلة المدينة التي يعتقد أن الانتشار الجديد للجيش، الموجود أصلاً في المنطقة، لن يؤدي إلى وقف هذه المواجهات. معروف أن مدينة طرابلس كانت بين المناطق الأخيرة التي انضمت إلى لبنان الكبير واعترفت باستقلال بلاد الأرز في حدوده الحالية، بعدما كان سكانها يفضلون الانضمام إلى سورية. وهذا يظهر عمق التعلق التاريخي بالداخل العربي، وهو تعلق جرى التعبير عنه في المدينة، بعد الاستقلال، بالثورة المصرية وشخصية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وبعده المقاومة الفلسطينية قبل خروجها من الفيحاء بضغط عسكري كبير من القوات السورية. وهذا يعني أن مشاعر «الانعزال» التي نسبت إلى تيار لبناني، مسيحي في غالبيته، ليست هي التي تحرك حال المواجهة الحالية بين المدينة وسورية عموماً، وبينها وبين علويي جبل محسن خصوصاً، والذين يحسبون أنفسهم على الحكم السوري الحالي، بحكم الانتماء الطائفي الواحد. وبذلك يسقط كل ادعاء أن ما يحصل في طرابلس هو ظرفي، وأن انتشار التيار السلفي في المدينة يؤجج التوتر. والأصح هو أن الوضع الذي تعيشه المدينة منذ التدخل العسكري السوري في لبنان ربط مصير الأمن فيها بوضع البلد الجار، وأن المدينة عاشت على وقع هذا الوضع منذ انفجار أزمة الثمانينات بين «الإخوان المسلمين» وبين الحكم السوري. ودفعت، يومها، ثمن تضامنها مع حماة قصفاً واجتياحاً واعتقالات ومفقودين. ويكرر بعض أهاليها مثل هذا التضامن مع المناطق السورية التي تعيش المعاناة ذاتها، ومع اللاجئين السوريين الفارين من جحيم هذه المعاناة. هكذا ارتبط الوضعان، في طرابلس وفي المدن السورية التي تتعرض لهجمات القوات الحكومية، ارتباطاً وثيقاً. وبات الوضع الطرابلسي حالياً التعبير الأكثر رداءة عن الوضع السوري، من حيث تحوله مواجهة طائفية علنية وغير قابلة للتأويل. وبذلك، من المستبعد أن تشهد طرابلس هدوءاً فعلياً ومصالحة حقيقية ما دامت المواجهات تحكم العلاقة بين مكونات المجتمع السوري. وما دامت المواجهات في طرابلس تقدم مبررات لآلة الدعاية الرسمية السورية عن السلفيين والمجموعات المسلحة وتهريب السلاح الخ... أما الدولة اللبنانية المنقسمة بين من «نأوا بأنفسهم» وبين من انخرطوا في آلة المواجهة السورية الرسمية، فلن تكون قادرة على استعادة طرابلس إلى حضنها وتجعلها تنأى فعلاً عن تداعيات العنف الأهلي في سورية.