من ضمن المشاريع التي أعلن عنها خلال الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي، مشروع فيلم يتناول جزءاً أساسياً من حياة الكاتب أوسكار وايلد وهو الجزء الذي يروي في شكل خاص صراع هذا الكاتب «المنحرف» مع الملكة الأكثر محافظة في التاريخ البريطاني، فكتوريا. وربما يشكل هذا المشروع مناسبة هنا كي نطل على جانب قد نستغربه بعض الشيء من حياة وكتابة وايلد لا شك في أن الفيلم سوف يتطرق إليه، ولا شك أيضاً أنه سيشكل مفاجأة لمن لا يعرفون عن وايلد سوى جانب «الانحراف» فيه. فمن يعرف السمعة «غير العطرة» التي صنعها النقاد والمؤرخون الفكتوريون، أواخر القرن التاسع عشر، لهذا الكاتب والشاعر، يصعب عليهم أن يصدقوا أنه يمكن أن يكون هو كاتب تلك المجموعة من القصص والحكايات القصيرة التي تضمها مجموعة عنوانها «الأمير السعيد». ذلك أن في هذه القصص من الشفافية والشاعرية والعمق الرمزي، ما جعل كثراً من القراء لا يصدقون أن كاتباً منحرفاً ويخضع للمحاكمات يمكن أن يصيغها. ومع هذا كان وايلد هو الذي كتبها لتنشر مجموعة في كتاب عرف بأنه ينتمي إلى الأدب الموجه إلى الصغار. غير أن هذا لم يحل دون الكبار وقراءتها واعتبارها أعمالاً أدبية أصيلة. والطريف أن هذه النصوص لم توضع كنصوص مكتوبة، بل إن وايلد كان يقصها شفاهية على أخيه، وهما في باريس، إذ كان ذلك الأخ يسأله أن يزوده بموضوعات تصلح مقالات لصحيفة كان يراسلها. إذاً، كان أوسكار وايلد يبتكر ويحكي وكان أخوه يسجل. في البداية حول الأخ الحكايات إلى مقالات صحافية، ثم بعد ذلك استعاد أوسكار حكاياته ليكتبها بلغته الخاصة ويصدرها مجموعة، للمرة الأولى عام 1888. وهي طبعت مرات كثرة بعد ذلك ولا تزال تطبع إلى اليوم، كما ترجمت، مفرقة أو مجموعة إلى لغات عدة. بل اعتبرها بعض مؤرخي حياة وايلد ودارسي أعماله، من افضل هذه الأعمال. وكما يمكننا أن نفهم هنا، تتألف المجموعة من قصص قصيرة عدة، أشهرها وأجملها، بالطبع، تلك التي أعطت اسمها إلى المجموعة، حتى وإن كنا نعرف أن مبدعين لاحقين على زمن أوسكار وايلد، ومنهم موسيقيون، اتجهوا في تفضيلاتهم إلى نصوص غير «الأمير السعيد»، إذ وجدوها أكثر ملاءمة كي تقتبس في أوبرات أو أعمال موسيقية أو مسرحية أخرى، ومن هنا كانت حصة، ثاني حكايات المجموعة «العندليب والوردة» أكبر كثيراً، حيث نعرف أنها اقتبست مرات عدة، في أوبرات وأغنيات ومشاهد باليه وما إلى ذلك. بينما لم تقتبس «الأمير السعيد» سوى مرة واحدة في شكل مباشر في عمل رسوم متحركة تلفزيوني (عام 1974). ومهما يكن فإن هذا الأمر لا يغير من الواقع شيئاً، لا سيما من واقع أن ملايين الأطفال، والكبار أيضا قرأوا دائماً «الأمير السعيد» بمتعة وتأثروا بها. تتحدث «الأمير السعيد» عن أمير عاش خلال حياته معزولاً عن الناس فلم يحس أبداً ببؤسهم ومعاناتهم. ثم حين مات أقيم له تمثال مرتفع وسط المدينة، كان يمكنه منه أن يطل على الناس والأحياء الفقيرة ما جعله يعي، في حاله الجديدة تلك، حقيقة أولئك الناس وبؤسهم وجوعهم. ولما كان غير قادر على الحركة، لأنه تمثال، استعان بسنونوة، صديقة له تحط عليه بين الحين والآخر، كي تنقل إلى الناس البائسين تباعاً، قطعاً من الذهب وجواهر من التي تزين ثيابه. وكانت السنونوة تنفذ مطلب الأمير وتوصل تلك الثروات الصغيرة إلى الناس فيسدّون بثمنها بعض جوعهم. وفي نهاية الأمر، كان لا بد لتلك الثروة أن تنفد، ما جعل السنونوة تدرك أنها ستموت من البرد، هي التي اعتادت اللجوء إلى التمثال حين يشتد الصقيع، فتجد في ثيابه وزينته الثمينة دفئاً وملجأ لها. ولما أدرك الأمير خطورة ما فعل مع السنونوة وأنها لا محالة هالكة، حاول أن يبعث فيها الدفء من طريق طلبه منها أن تقبله على شفتيه. تفعل لكنها مع ذلك تموت وينفطر قلب الأمير... في القصة الثانية، «العندليب والوردة»، وهي الوحيدة في المجموعة التي تضاهي شهرتها - إلى حد ما - شهرة «الأمير السعيد»، لدينا عندليب يحدث له ذات يوم أن يسمع شكوى طالب من أن ابنة أستاذه لا تريد أن ترقص معه، بالنظر إلى أنه غير قادر على أن يأتي لها بوردة حمراء. على الفور يتوجه العندليب إلى الحديقة حيث يتجول بين شجرات الورد، حتى تخبره واحدة من هذه الشجرات أنها قادرة بالفعل على أن تبرعم وردة حمراء، شرط أن يكون العندليب مستعداً للتضحية بحياته في سبيل ذلك. يتردد العندليب أول الأمر، لكنه إذ يعود ويرى كمّ الدموع التي تذرفها عينا الطالب، يقرر أن عليه أن يقوم بتلك المهمة مهما كلفه الأمر. وهكذا يندفع نحو شجرة الورد غارزاً شوكها في جسده وقلبه خاصة، كي ينزل الدم القاني منه ويلوّن الوردة. وإذ يحصل الطالب العاشق على وردته الحمراء يحملها ويقدمها إلى ابنة أستاذه التي، ترفض عرضه هذه المرة، إذ خلال ذلك الوقت كان شخص آخر دنا منها وأهداها جوهرة. «وكل الناس يعرفون بالطبع أن قيمة الجواهر تفوق كثيراً قيمة الورد ولو كان أحمر اللون». وهكذا إذ يفشل طالبنا المسكين في مسعاه، لا يكون منه إلا أن يخرج من المكان رامياً الوردة، عائداً إلى دروسه، حيث ينكب على مادة الميتافيزيقا. تحمل القصة الثالثة في المجموعة عنوان «العملاق الأناني». والعملاق الأناني هنا هو صاحب حديقة جميلة غناء يحب الأطفال أن يلعبوا في رياضها. ولكن إذ يعود العملاق ذات يوم من زيارة قام بها إلى دار الغولة، لا يروقه تمتع الصغار بحديقته، فيطردهم بعنف، ثم يبني من حول الحديقة سوراً يمنعهم من دخولها في المستقبل. وتكون النتيجة أن يحل على الحديقة فصل شتاء لا ينتهي. ولكن ذات صباح يوقظ العملاق من نومه ليجد أن الربيع عاد إلى الحديقة، إذ تمكن الأطفال من إحداث ثغرة في السور نفذوا منها وعادوا يلعبون. يدرك العملاق بالطبع خطأ أسلوبه فيقرر هدم السور. لكنه حين يخرج من داره الحصينة ليفعل ذلك، يرتعب الأطفال ويهربون، باستثناء واحد منهم كان يبكي قبل ذلك إلى درجة أنه لم يلاحظ وصول العملاق. يشاهد العملاق الصبي، فيساعده لتسلق شجرة كان هذا يريد تسلقها. وعلى سبيل الامتنان يقبّل الصبي يد العملاق... الذي يقول له بكل لطف هذه المرة: «إن هذه الحديقة حديقتكم يا أيها الأطفال...». ثم يهدم السور ليتدفق الأولاد لاعبين من جديد ويعود الربيع. وتمر سنوات قبل أن يصل العملاق إلى مشارف الموت، فينزل إلى الحديقة وكان الفصل شتاء، ليلاحظ كيف أن الربيع يبرعم في قسم منها ويزهر أشجارها ومنها واحدة كان الطفل الضائع مستلقياً عليها... «الخل الوفي» هو عنوان القصة الرابعة، التي تقل أهمية عن الثلاث السابقة، وبالتالي لم يتم اقتباسها، كما أن النقاد لم يتحدثوا عنها كثيراً. تدور هذه القصة من حول هانز، وهو جنيناتي صديق لطحان ثري. وهذا الطحان، يسمح لنفسه بأن يقطف ما يشاء، باسم الصداقة، من حديقة هانز على أن يعطيه في المقابل ما يعوض عليه ما كان باعه كي يؤمن لنفسه طعاماً. لكن الطحان الثري لا يعطي الأشياء بسهولة، ومن هنا يطلب من هانز أن يقدم له خدمات كثيرة في مقابل كل وعد بإعطائه شيئاً. وتصل الطلبات إلى حد يثير معاناة هانز، ثم موته حين يسأله الثري أن يأتي له ذات ليلة عاصفة بطبيب يداوي ابنه المريض. طبعاً يأسف الطحان الثري لموت صديقه، لكنه لا يقدم شيئاً غير الأسف. أما في القصة الخامسة «السهم الناري الملحوظ»، وهي التي قال النقاد دائماً إنها الأضعف بين القصص الخمس، فإن الحكاية تتمحور من حول سهم ناري كان من بين مجموعة يجب إطلاقها لمناسبة زواج أمير من أميرته. ولما كان السهم مغروراً منتفخاً يريد دائماً أن يبدو مميزاً، يغرق في دموعه ليلة الإطلاق كي يبرهن على أنه أكثر حساسية من بقية الأسهم. ويؤدي هذا، بالطبع، إلى بلله، وثم إلى عدم انطلاقه. وإذ يرمى في القمامة في اليوم التالي يظل معتقداً أنه فائق الأهمية ولا يمكن للجمهور أن يكون سعيداً من دونه. في النهاية ينشف ويطلق ولكن في وقت لا يكون فيه أحد قادراً على ملاحظة وجوده وانطلاقه. لقد سعى أوسكار وايلد في قصص هذه المجموعة، إلى المزاوجة بين الأدب الغرائبي والنقد الأخلاقي، بل حتى الفني، وذلك في لغة بسيطة هادئة. ومن هنا حتى إذا كان كثر في العالم لا يعرفون شيئاً عن روايات أوسكار وايلد (1854- 1900) وأشعاره ومسرحياته، لا شك في أن صغاراً كثراً وربما كباراً أكثر أيضاً، يعرفون هذه الحكايات التي صارت، منذ زمن بعيد جزءاً أساسياً من مخزون الأدب الغرائبي وأدب الأطفال في العالم. [email protected]