من بين تداعيات العولمة الراهنة، يبرز التدويل الهائل لأزمة النظام الرأسمالي التي لم تشهدها المجتمعات البشرية من قبل، والتي تتجلى في الركود الاقتصادي العالمي، وما نجم عنه من ازدياد في وتائر التمايز الطبقي الذي ساهم بقوة في ظهور الحِراكات الشعبية، ومنها ما بدأ قُبيل «الربيع العربي»، ومنها ما واكبه أو جاء على وقعه. وتمثّل ذلك في اندفاع الأفراد إلى الساحات والشوارع، وعلى صعيد الفن في انشغال المنظمات والفرق الخاصة أو الأهلية في التعبير عن ذاتها فنياً، كتجربة شبكة «مساحات» الهادفة الى إنشاء فضاء مختلف يتقبل الحوار القائم على إحترام الرأي والرأي الآخر، وفق مبدأ التنوع الثقافي، مع التعبير عن ذلك بواسطة لغة الرقص المسرحي المعاصر. وفي هذا السياق اختُتمت في عمّان الدورة الرابعة لمهرجان عمان للرقص المعاصر، الشريك في شبكة «مساحات» التي أُسست في العام 2006. وشاركت في المهرجان فرقة باليه «بويز» البريطانية، باستعراض راقص حمل عنوان «الموهبة»، قدّم فيه الراقصون الستة تقنيات أجسادهم لغةً مسرحية لا تخلو من جمالية أخاذة، لجهة الانسياب مع الإيقاع، فغدا أداؤهم علامات دلالية تضج بحيوية الشباب، موحيةً بتوق ذواتهم الى الانعتاق والتحرر من الواقع المادي، إلى الدرجة التي راحت معها هذه اللغة الجسدية تبوح وتطرح وتوحي بما تعجز اللغة الذهنية عن طرحه، أمام بلاغة المجازات البصرية، دونما لجوء إلى السينوغرافيا، إلا من حيث الإضاءة. وهيمنت في القسم الأول من العرض ثيمات ورسائل عاطفية إنسانية، تُوّجت بالحب بوصفه قيمة عليا لا يدنو من رفعتها شيء. وفي القسم الثاني خيمت قيم جسدت العنف والتنافر بين الشخوص، للدلالة على طبيعة العلاقات الشائعة في المجتمعات البشرية. ونجحت اللوحات الراقصة في شد الجمهور، بتناغمها مع المقطوعات الموسيقية الثلاث التي ألفها راسيل ماليفانت، وبول روبرت، وجارك سيميريك. وبرزت في العرض الإسباني «ستوكس»، جماليات التقنيات البصرية المستندة إلى الأبيض والأسود، إلى جانب التقنيات السمعية القائمة على أصوات غلب عليها الطنين المعدني، وصوت الريح في سرعات عالية بعيداً من عزف أي آلة موسيقية مألوفة. بينما جاءت لغة الجسد للراقصَين موريل روميرو وبابلو بالاسيو، لتتناغم مع هذه المؤثرات أثناء تحول كلٍّ منهما نفسياً واجتماعياً، إلى فضاء مغاير لذلك المرتبط بالجانب الإنساني، في إشارة إلى أن التقنيات الرقمية في عصر العولمة ستأخذ البشر آجلاً أو عاجلاً إلى منحى فكري مختلف عما عهده الأفراد في سلوكاتهم الطبيعية. وبأسلوب راقص حديث وشيق، نجح عرض «أليس في بلاد العجائب» الذي قدمته فرقة «دوستيل» الهولندية في اصطحاب الأطفال برحلة تحاكي خيالهم الجامح، بما تنطوي عليه من مغامرات ومفاجآت تتعرض لها «أليس» في رحلة بحثها عن أرنبها الضائع، لتجد نفسها في مكان مليء بالحيوانات: فأر وقطة وشرنقة وملكة ومجموعة من المخلوقات التي تتمنى لو أنها لم تقابلها، إضافة إلى أبواب بأحجام وأشكال مختلفة تؤدي إلى مطبخ من عالم الخيال يتم فيه تحضير أغرب الأطباق.