وظيفة «قلم الأمير» وظيفة عرفها الأقدمون والمحدثون. وهي ما زالت تمارس اليوم عند كثير من الدول مهما اختلفت أنظمتها السياسية. صحيح أن بعض الملوك والرؤساء كان يسهل عليهم أن يرتجلوا خطبهم وحواراتهم، إلا أن السائد هو أن هناك دوماً كتبة قائمون على تحرير الخطب الرسمية. ما جرت به العادة أن أقلام الأمراء أقلام خفية خرساء، فهي تظل تعمل في الظل من غير أن تتكلم. فغالباً ما نظل نجهل من كان وراء خطب رئيس دولة ما حتى تنقضي مدة ولايته. ففي فرنسا، على سبيل المثال، لم تظهر للعيان أسماء من كانوا يحررون خطب فرانسوا ميتران أو جاك شيراك إلا بعد تخليهما عن الحكم. فكان من المستبعد مثلاً أن يظهر كاتب خطب ميتران على الشاشة ليتحدث باسم الرئيس و «يتكلم» بلسانه، «لأن الكلام، على حد قول ريجيس دوبريه، مناقض لروح الجمهورية». والظاهر أن الأمر مخالف لذلك تمام الاختلاف في الولاياتالمتحدة، حيث يحتل «قلم الأمير» وظيفة رسمية معروفة مكشوفة للعيان، وحيث بإمكان الجميع أن يعرف من يخط خطب البيت الأبيض. إلا أن موجة الأمركة التي غدت تطغى في أوروبا أخذت تدخل على هذه الوظيفة بعض التعديل، بل التحول الجذري. لإدراك مدى هذا التحول يكفي أن نأخذ مثالاً على ذلك الدور الذي لعبه قلم الرئيس ساركوزي أثناء ولايته، والسمات التي تميز بها: أولى سمات قلم ساركوزي أنه قلم لا يعمل في الظل. فمنذ بداية حكمه كان الكل يعرف أن هنري غينو هو من يحرر خطب الرئيس. وهو من يملأها اقتباسات لمفكرين قد يكونون في بعض الأحيان بعيدين كل البعد عن أيديولوجيا حزب الغالبية. بل إن المتابع لخطب الرئيس كان بإمكانه غير مرة قراءة خطبة الرئيس على شفتي قلمه، إذ كان السيد غينو يواكب سراً ما كان ساركوزي ينطق به جهراً، فكان بإمكاننا غير مرة أن نقرأ خطبة الرئيس على شفتي غينو. السمة الثانية أنه كان قلماً يتكلم، بل إنه يكثر من الكلام. وهو لا يغادر شاشة إلا ليظهر في أخرى. وقد سبب ذلك كثيراً من الحرج لرئيس الحكومة الفرنسية أو لبعض وزرائه في مناسبات متعددة. من الطبيعي أن هذا الظهور الدائم على الشاشة، والدخول في نقاشات سياسية متشعبة في بعض الأحيان، كانا يدفعان بالسيد غينو، لا أن يكتفي بأن يخط ما يتفق عليه مع رئيسه، وإنما أن يُعمل هو نفسه تفكيره، حتى إن المتتبع لحديثه لم يكن يدري أين ينتهي تفكير الرئيس ليبدأ تفكير قلمه. هو إذاً، ليس قلماً يتكلم ويكشف عن أسرار، أو على الأقل عما لا ينبغي كشفه بكل سهولة، بل هو قلم يفكر، ويفكر جهراً، وأمام الأضواء الكاشفة. لعل ذلك ما كان يزعج بعض الفرنسيين، الذين تعودوا أن يتقبلوا جمهوريتهم على أنها «ملكية» جمهورية، وأن رئيسها ينبغي ألا يكشف أسرار الحكم ودواليبه، وأن أقلامه ينبغي أن تظل أقلاماً تخط في الخفاء من غير أن تتكلم أو تنطق أو تقتبس أو تفكر. * كاتب مغربي