بدأ المخرج الفرنسي دافي زلبرفان حياته العملية وهو في الرابعة عشرة من عمره حين عمل في مهنة الخياطة. وكان في الثامنة عشرة حين قرأ مقالاً صحفياً عن سجن تازمامارت في المغرب، وعن المعتقلين الذين قضوا فيه ما معدله ثمانية عشر عاماً لكل منهم. عقد الشاب مقارنة بين حياته وبلوغه سن الثامنة عشرة وبين هؤلاء الذين قضوا 18 سنة في غياهب المعتقل، فبدا له الأمر فظيعاً، خصوصاً بعد أن قرأ عن إنكار السلطة تماماً وجودَ هؤلاء الناس في السجن وللظروف التي يعيشون فيها، وعن إنكار أُسر المساجين أنفسهم أن ذويهم في هذا المعتقل، والأمر الثالث أن الأمهات في هذه الأُسر اضطرت أن تحكي لأولادها قصصاً غريبة جداً حتى تفسر غياب هؤلاء الآباء، فتأثر دافي عاطفياً وقال لنفسه: «إن لم أصنع هذا الفيلم فلن أصبح مخرجاً أبداً». وهو صنع الفيلم لاحقا، و «الحياة» التقته لتناقشه في شأن فيلمه الوثائقي هذا وعنوانه «العيش في تازمامارت» الذي استغرق سنوات ليخرج إلى النور. عندما قررت إخراج الفيلم، هل كنت تدرس سينما؟ - أثناء عملي في مهنة الخياطة التقيت بصديق يخرج فيلماً روائياً قصيراً فاشتركت معه. وقتذاك اجتاحتني رغبة العمل في السينما فتركت مهنة الخياطة والتحقت بالجامعة، ثم قرأت تفاصيل عدة حول موضوع تازمامارت، وبدأت العمل كمساعد مخرج لعدد من المخرجين، ورحت أكتب فكرة فيلم تازمامارت. وعندما قررت تحويل المشروع إلى فيلم تسجيلي عملت مع مخرج وثائقي لاكتساب الخبرة، وفي الوقت نفسه حضرت دورة لمدة 15 يوماً عن الأفلام الوثائقية. زيارة المغرب متى بدأت العمل الفعلي؟ هل بدأت بزيارة للأماكن والناس، وعمل معاينة للأجواء قبل الكتابة؟ - حين بدأت الكتابة كنت أفكر في عمل فيلم روائي، لكن أثناء الكتابة ناقشت أشياء كثيرة، تقريباً كل الأشياء التي أعرفها كإنسان يعيش في فرنسا، وحاولت أن أتناول مواضيع عن روسيا وألمانيا، ومشاكل دولية أخرى، بعد الانتهاء من ذلك تأملت ما كتبت وقررت أن ذلك السيناريو لا يصلح... من هنا، فكرت في عمل فيلم تسجيلي. وقتها حصلت على منحة تمكنني من السفر إلى المغرب. لم أكن قد بدأت في كتابة السيناريو الوثائقي. الشيء الأول فكرت فيه أن أزور السجن. لكن المشكلة أن الأخبار كانت تقول إن المكان قضي عليه، تصادف في هذه الفترة أنني التقيت كرستين زوجة إبراهيم صرفاتي القائد الشيوعي المعروف، فدلتني على المكان السري للسجن، فذهبت وصورته عام 1997. ثم التقيت بالمعتقلين عام 1999، ما شكل تفكيري وجعلني أعيد كتابة السيناريو. تصوير سجن تازمامارت عام 1997، هل تم في شكل سري؟ - لم أصور السجن من الداخل أبداً، كما لم أصوره في شكل رسمي إطلاقاً في أي مرة من المرات الثلاث التي زرته فيها. عام 1999 لما رجعت إلى المغرب لمقابلة الناس الذين أفرج عنهم، وقابلت بالفعل 15 منهم زرت السجن مرة ثانية وصورته أيضاً من الخارج، لكن هذه المرة تم إلقاء القبض عليّ أثناء التصوير، ووضعت في السجن لمدة يومين وسحبوا مني جواز السفر قبل أن يتم الإفراج عني. المرة الثالثة جئت ضمن وفد للسياحة الدينية وصورته أيضاً من الخارج. لماذا؟ - لأنه كان معسكر جيش وكان الاقتراب منه ممنوعاً أو التصوير فيه. الغريب أن المسؤولين كانوا منذ عام 1991 عندما تم الإفراج عن المعتقلين، يقولون دائماً أن تازمامارت تم هدمه ولم يعد له وجود، ومن قبل كانوا ينفون وجوده، لكن في كل المرات التي زرت فيها المكان كان السجن موجوداً. طوال هذه السنين كانت السلطات تريد ألا يتحدث الناس عن السجن فظلوا ينكرون وجوده، وكان الناس أيضاً يخافون من الحديث عنه خوفاً من أن يتم القبض عليهم، فظلّ الناس كلهم ينفون وجوده، ويؤكدون أيضاً أنه غير موجود، ونتيجة لذلك بدا السجن كأنه وهم أو خرافة رغم أنه موجود. خطورة الوضع هل حددت منذ البداية زاوية التناول والمعالجة؟ - كانت أمامي احتمالات كثيرة، لكن الأهم أنني أردت التعبير عن خطورة الموضوع، لكن بشيء من الشاعرية. وكان الإشكال هو كيف أجمع بين الفظاعة والشاعرية. لأنني شاهدت أفلاماً كثيرة عن المسجونين والتعذيب تحمل مشاهد مؤلمة جداً، وبمرور الوقت شعرت بأن هذا الألم وتلك الفظاعات أصبحت كالشاكوش أو المطرقة تدق فوق رأسي، ولم أعد أطيق أن أسمع شيئاً آخر من هذه الفظاعات، لذلك أردت ألا يكون فيلمي كالمطرقة تدق على رأس المتلقي. التقيت خمسة عشر شخصاً من المعتقلين، فلماذا اخترت خمسة فقط؟ هل كان بعضهم توفي، أم إنك اخترت الناس القادرين على الحكي، وعلى استعادة تجربتهم؟ - تم الإفراج عن 28 وقابلت 15، لأنه لو صورت مع ال15 كان الفيلم سيتحول إلى شهادات... لكن الفيلم يتضمن شهادات بالفعل. - هذا صحيح، لكني أردت تعميقها وتغطية تجربة كل شخصية، وتحويلها إلى ذاكرة من أجل تعميق الفكرة وبلورتها. لذلك، اخترت شخصيات متنوعة ومختلفة في التجربة، فمثلاً أحدهم يتحدث عن الجانب الروحي، وآخر يتحدث عن خطورة أن تُعزل عن الحياة والشمس والطبيعة، ومن ثم عندما يظهر شعاع رفيع للشمس يتحايل حتى يمتصه، وثالث يتحدث عن إحساسه بالبرودة والثلج ومشاكل التواليت وعلاقته الحميمة مع جسده. كما اخترت القادرين فقط على التعبير، وهذا استلزم حداً أدنى من التعليم فاخترت الضباط، لذلك لم أقدر على التصوير مع العساكر. فاختياري خمسة فقط وإلغاء الآخرين ضايقني وأتعبني جداً لكنها كانت الطريقة الوحيدة لصنع الفيلم. هل تم التصوير مباشرة، أم إنك بدأت بجلسات استماع لهم؟ - عام 1999 أجريت بعض التسجيلات معهم، لكنني لم أصل معهم فيها إلى النهاية ولم أعمقها خوفاً من قول كل شيء، ما يؤثر في لحظة التصوير الفعلي. وأثناء التصوير امتنعت تماماً عن التعليق على أحاديثهم، كنت أتركهم يتحدثون ويقولون ما يريدون، وكان هذا مشكلة أحياناً حيث كنت أعض على لساني حتى لا أعلّق، لأنهم أحياناً كانوا يصمتون ولا يعرفون كيف يتصرفون ولا ماذا يقولون! لكنني كنت مُصراً على عدم التعليق حتى أمنحهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم. أماكن التصوير سواء الداخلية أو الخارجية في الطبيعة، هل كانت من اختيارك أم من شخصيات أبطال الفيلم؟ - من اختياري، لكنني راعيت أن تعبر عن حالتهم وعما يقولون، عن أحلامهم وخواطرهم في السجن. كذلك عندما يكون الحكي متعلقاً بالحياة في الزنزانة حرصت على ألا يكون التصوير في زنزانة، بل أن يكون في الطبيعة ليكونوا على راحتهم، لأن الفضاء يسمح لهم بالتفكير والتأمل وتعميق الأشياء، ويخفف من وطأة استعادة التجربة وخبرة المعتقل بكل بشاعتها. إلى جانب أن تصويرهم في الطبيعة لا يُشعر المتفرج بأنه مخنوق. كما يكشف التناقض بين حيواتهم في الزنزانة وبين بهاء الطبيعة التي حرمتهم منها السلطة وجمالها. رسائل السجن عندما يعيد الزوج قراءة الخطابات التي كان يرسلها من السجن نرى الزوجة في الخلفية، هل كان تصميم «الميزانسين» اختياراً آنياً، أم متعمداً كتعبير رمزي عن كونها السند القوي لزوجها طوال فترة سجنه، وليعايش المتلقي هذه الفترة الصعبة من خلال ملامحها المتأثرة بحديث زوجها في الخطاب؟ - في كل لقطات الفيلم كان ذهني مشغولاً باختيار المكان و «الميزانسين». هنا، لأن الزوج عندما كان يكتب الخطاب كانت الزوجة في خلفية تفكيره، وهي عندما تتلقى الخطاب وتقرأه كانت تفكر فيه لكن بطريقة غامضة إلى حد ما، لذلك أتت ملامح الزوج ضبابية بعض الشيء، وفي الوقت نفسه هذا الكادر يتيح أن يرى المتلقي ملامح وجه الزوجة وكأنه مرآة عاكسة مشاعرها وأحاسيسها. ومثلاً مشهد الابن بعد إعادة قراءة الخطاب نراه يفتح الباب ويخرج إلى شاطئ البحر بينما يقف الأب على سور الشرفة، لما صورتهما حرصت على وجود مسافة بينهما، لأنه مهما كانت علاقتهما قوية إلا أن السجن خلق بينهما مسافة. لم يمسك أحدهما ذراع الآخر، لم ينظر أحدهما للآخر، لكن الاثنين كانا ينظران الى البحر الذي يرمز للأم التي تجمع بينهما. الابن عندما اختنق بالبكاء أثناء قراءة الخطاب وخرج من الكادر، لم تكمل تصويره، هل كان ذلك اختيارك أم رغبة الابن؟ - اختياري الذي تلاقى مع رغبة الابن بحركة جسده وابتعاده عن العدسة، وأنا قبل التصوير أعطيت أمرين للمصور، أن تظل الكاميرا ثابتة من دون حركة، وألا يصور الأجزاء التي فيها ردود فعل عاطفية قوية جداً حتى لا أخدر ذهن المتفرج.