يوماً بعد يوم يتعمق ذاك الغياب الطاغي لقطاع غزة عن التواصل مع بيئته الطبيعية الوطنية والإقليمية، وذلك بفعل الحضور المعمق لسلطة انفصالية، باتت ترى في ذاتها السلطة التي «حباها ويحبوها الله برعايته»، لتؤسس على قاعدة هذه الرعاية سلطة مخادعة ذاتية، ليس بينها وبين السياسة من اتصال، حتى بات الأمر لديها ينعقد على سبيل المصلحة أو المصالح المرسلة لشرائحها العليا في الداخل، ولشرائح قيادية عليا (أممية خصوصاً) في الخارج، وذلك بعيداً من المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية. منذ البداية كان مثل هذا البُعد واضحاً، ولم يكن لينسجم إلاّ في أبعاده المصلحية/الطبقية والاجتماعية التي كرست وضعاً سياسياً مناوئاً، استمد من الانقلاب الطبقي مبرراته ونظرياته وتنظيراته المخادعة، حتى صار الشعب في واد و «أولياء أمره» في واد، أو وديان أخرى بعيدة/غائرة في الغياب السياسي والثقافي وحتى الأيديولوجي، فلم تعد «حماس» العام 2012 هي ذاتها «حماس» العام 2007 أو ما قبل ذلك؛ فقد مضت هذه الحركة كما مثيلاتها في الديار العربية، نحو تبني محمولات السلطة بكامل تأطيراتها وتنظيراتها، وحوّلت الاستبداد السياسي إلى ممارسة يومية، كما حولت الاستبداد الطبقي إلى سلوك يومي راهن، وكأن التحولات الطبقية لمجموع قيادات أو كوادر الحركات السياسية الإسلاموية «ضرورة ربانية»، تتحول معها السلطة إلى سلطة قاهرة متجبرة، تحول الشعب إلى خدم وعبيد لأسياد المرحلة الاستبدادية، ولزعامات الثورات المضادة التي يجرى تصويرها أو التماهي معها، كونها الثورات الشعبية أو الشبابية التي تمظهر بها «الربيع العربي» في عدد من بلدان المنطقة. من الانقسام إلى الانفصال، ومن الدولة الفلسطينية المستقلة إلى «الدولة الموقتة» بلا هوية وطنية، مسيرة انفصام واقعية استغرقتها سيرورة «السلطة الربانية» وتحولاتها في فضاء غزة، المأزومة الغارقة في ظلامها وظلاماتها وظلامياتها، بفعل سياسات «أولي الأمر»، الآخذين على عاتقهم مسيرة فصل غزة وإبعادها من فلسطينيتها كقضية، كما وإبعادها من محيطها الإقليمي العربي، وإلحاقها بمحيط إقليمي سرابي، لا تُعرف لهويته قاعدة أو أرض وطنية أو قومية؛ وتلك أمراض السلطة المزمنة الحادة، وهي تتحول إلى مرض عضال، يزين للانقسام «ضرورته»، وللانفصال «مزاياه»، وكذا تتزين «الدولة المؤقتة» كونها الخطوة الأولى والأخيرة البديلة لقيام الدولة الفلسطينية العتيدة، التي ابتلع الجدار والاستيطان والتهويد تقريباً كامل مقومات حياتها التي استحالت موتاً لحل الدولتين، ولم يبق أمام انقساميي الانفصال سوى المتاجرة بدعوة «الدولة المؤقتة» التي قد تلقى ترحيباً وتشجيعاً قلّ نظيرهما، جراء غياب الدولة الدائمة أو الفعلية التي يمكن أن تحتويها الأرض الفلسطينية، كونها الحاضنة الطبيعية للدولة؛ دولة الشعب الفلسطيني الوطنية غير القابلة للمساومة، أو التقسيم، أو الانفصال، أو قيام سلطة مؤقتة غير ناجزة، لها سمات اقتسامية وانفصالية مضادة للحدود الدنيا من أهداف عليا، يُجمع عليها الشعب الفلسطيني بكامل فئاته وفصائله الوطنية. هكذا في ظل تلاشي إمكانية قيام دولتين (حل الدولتين) على أسس واقعية، وعلى أرض صلبة ومحررة من الاحتلال، وفي ظل استبعاد أو عدم الموافقة على دولة ثنائية القومية؛ للأسباب ذاتها الطاردة لإمكانية قيام تسوية متفق عليها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وفي ظل إشكاليات وتعقيدات رفض قيام دولة واحدة بالاتفاق والتوافق بين طرفي الصراع الأساس، أين يمكن قيام «الدولة المؤقتة»؛ سوى في قطاع غزة، بكل الإشكاليات والمعضلات التي تثيرها مثل هذه المسألة الشائكة، لجهة انقسام يتعمق، ليس في الطبيعة السياسية أو الجغرافية، بل وفي انقسام وتقاسم النظام السياسي الفلسطيني الذي لم يعد موحداً، ومحاولات انفصال مضمرة، يجرى التهيئة لها ذاتياً وموضوعياً، عبر تحولات معمقة سياسية وطبقية، تتقولب السلطة الفئوية فيها. فيما السلطة الأخرى في الضفة الغربية باتت تصطدم تحولاتها بجدار احتلال استيطاني وتهويدي موغل في محاولات فرض إجماعه على أجندة تسوية مستحيلة، لا مخرج أو مخارج لها في ظل موازين قوى ضاغطة، تستحيل زحزحتها موضوعياً أو بالاستناد إلى قوى صديقة أو عبر تعاطف دولي، فيما العامل الذاتي الفلسطيني والعربي يعيش أسوأ شروطه. فلسطين قضية شعب، لا مسألة سلطة سيادية منقوصة الشرعية، أو منقسمة إرادياً، أو منفصلة إدارياً، ورؤية فلسطين من منظور الاحتلال لا تتيح ولن تتيح رؤية فلسطين محررة، على قاعدة برنامج وطني فلسطيني يلتزم منطلقات تحرر وطني، للأسف غادرته منذ زمن قوى سلطوية ما زالت تتشبث بأوهام «حل الدولتين»، فيما السلطة الأخرى لم تلتزمه أصلاً، وها هي تغادر مواقعها نحو تبني حل «الدولة المؤقتة»، كدولة بلا هوية ولا قضية لها، طالما هي ستكون دولتها العتيدة، دولة فئوية تتماهى وقوى «إسلام سياسي صاعد»، تزين له مغانم السلطة ودالاتها «المقدسة» ومغريات قوتها الواهمة أو الحقيقية؛ إنها «الدولة» وهي «الدولة»، في نزوع بونابرتي مقيم في ثنايا استبدادات مقيمة؛ فردية وجماعية، حتى ولو كان هذا تحت سقف الاحتلال ومشاركته المعلنة والمضمرة! وهذا في حد ذاته يتناقض تناقضاً صارخاً وتناحرياً مع فكرة فلسطين كقضية تحررية، أو محاولة تجزئتها وتقاسمها حصصاً ومغانم، يريد المستفيدون والمنتفعون منها التربيت على ظهر الاحتلال، لا الذهاب بإرادة الصراع وإدارته معه، حتى قصمه ودحره والخلاص منه نهائياً. وهنا المأساة مكررة... ومجسدة ذاتياً على شكل مهزلة. * كاتب فلسطيني