يرسخ الانقسام الفلسطيني واقعاً سياسياً لا يخدم الشعب الفلسطيني ولا قضيته الوطنية، وبالتالي فإن واقعاً منقسماً كان قد جرى تقاسمه بين طرفي الصراع الأساس (الداخلي) لا يخدم ولن يخدم مسألة الدولة المتوهمة؛ لا "دولة غزة" كدويلة أمر واقع أفرزها "الانسحاب" الإسرائيلي عام 2005، وكرسها الانقسام السياسي والجغرافي فيما بعد، ولا تلك التي يمكن أن تنشأ في نطاق ما يمكن أن يتبقى من أراض تقع ضمن حدود العام 1967. وفي كلا الحالين لن يكون هناك دولة فلسطينية؛ كدولة تعبر عن تطلعات الهوية الوطنية الفلسطينية، بما هي الهوية الوطنية الجامعة لمجموع الشعب الفلسطيني، أينما وجد، داخل الوطن وفي المنافي والشتات، ذلك أن دولة بمواصفات انقسامية لن تتعدى كونها دولة كيانية مقلصة ومحدودة، بحدود الطابع الفئوي للقائمين عليها، أو الخاضعين لتقليصات الأمر الواقع الكياني المفروض بقوة الطموحات المعادية لمحو فلسطينية الأرض والشعب وهويتهما التاريخية، سواء كانت تلك الدولة في غزة، من دون أن يجري الإعلان عنها، أو تلك التي يمكن أن يجري إعلانها في الضفة الغربية. ومهما تكن رسائل حركة "حماس" للعالم، وآخرها رسالة إتمام صفقة الأسرى، فهي لن تقنع أكثرية الشعب الفلسطيني بمبررات استمرار واقع الانقسام السياسي والجغرافي، والالتفاف والتلكؤ في اتخاذ أي خطوات عملية في اتجاه إتمام مسألة "المصالحة الداخلية"، والعمل بدلاً من ذلك على شرعنة أو تشريع "دويلة غزة"، والعمل للاحتفاظ بها كرهينة ، وكدالة سلطة؛ سلطة فئوية محلية، تحاول من خلالها حركة "حماس" أو بعضها (عبر أحد تياراتها الأكثر خضوعا لتوجيهات القيادة العالمية للإخوان المسلمين) الضغط على الموقف الفلسطيني الآخر؛ السلطة والمنظمة، لا سيما في توجههما لطلب نيل العضوية لدولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران عبر المؤسسات الدولية، وذلك في خطوة مضمرة تبيح لبعض الوضع الوطني الفلسطيني إعلان قيام "دويلة غزة" أو إعطاء انطباع بشرعنة إعلان الدولة الفلسطينية انطلاقاً من غزة، لا من الضفة الغربية، على أنها الدولة الفلسطينية البديلة لدولة قد تعترف أو لا تعترف بها الأممالمتحدة، وهذا في حد ذاته نوع من ترسيم فئوي أو فصائلي لمستقبل الهوية الوطنية والمستقبل الوطني العام، وتلك مصادرة مشهودة للتاريخ الكفاحي الخاص بالشعب الفلسطيني، وتجييرها لمسار يقبع خارج الخصوصية الكفاحية لهذا الشعب. من هنا أمكن فهم لماذا يسعى التصور الإسرائيلي للتسوية، إلى تلفيق موضوعة "الدولتين"، فبحسب ما أعلنه نتانياهو من موافقة لفظية في خطاب جامعة بار إيلان، حيث جرى اعتبار تلك الموضوعة كنوع من "ورطة مقصودة"، في وقت كان يجري فيه محاولة تكييف تلك الورطة عبر التأقلم مع "دولة ذات حدود مؤقتة"، تخلّص إسرائيل من مسؤولياتها كدولة محتلة، مع ما يعنيه ذلك من "إنقاذ" إسرائيل من "تهم" التمييز العنصري والتطهير العرقي، أو وصمها كونها دولة أبارتهايد. وذلك بهدف العمل على تأكيد "هويتها اليهودية" باستعادة وهم نظامها للحكم بكونه ديمقراطياً ويهودياً!. في ظل الاحتفاظ بأكثر المناطق الفلسطينية خصوبة وحيوية، وجعل الكتل الاستيطانية الكبرى خارج إطار السيطرة الفلسطينية، مع تمتعها بالسيطرة على القدس بكاملها.مؤخرا وقبل أيام، وفي خطوة التفافية على قرار المحكمة الإسرائيلية العليا تفكيك نحو 120 مبنىً استيطانياً، أقيمت على أراضٍ فلسطينية بملكية خاصة في الضفة الغربيةالمحتلة، وتحت ضغط أقطاب المستوطنين، تفتق ذهن رئيس الائتلاف الحكومي الإسرائيلي بنيامين نتانياهو عن فكرة "إضفاء الشرعية" على هذه المباني على رغم قرار سابق للجنة وزارية برئاسته، سلمته للمحكمة مطلع العام الحالي، يقضي بهدمها. حيث كانت اللجنة قررت في شباط (فبراير) الماضي تفكيك المباني المذكورة تجاوباً مع قرار المحكمة، وذلك في مقابل إضفاء الشرعية على نحو 700 مبنىً آخر منتشرة في عشرات البؤر الاستيطانية غير المرخصة التي أقيمت في السنوات العشرين الأخيرة، بداعي أنها أقيمت على ما يطلق عليه "أراضي دولة". لكن قادة المستوطنين تحركوا في الأيام الأخيرة لمنع هدم المنازل ما حمل نتانياهو على إصدار أمر لوزير القضاء يعقوب نئمان، بترؤس طاقم خاص من الحقوقيين "لبحث سبل إضفاء الشرعية على مبان في المستوطنات أقيمت على أراض خاصة". ويوماً بعد يوم، لا تتوانى حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل من ابتداع عقبات وعوائق؛ الهدف منها أن تكون حائلاً بينها وبين القيام بأي شكل حتى من أشكال "المناورة التفاوضية" التي يمكن أن تؤدي إلى انسحابات فعلية من أراض محتلة، خاصة مستوطنات القدس والضفة الغربية، لا سيما تلك التي توصف بالكتل والتجمعات الكبرى، وهي مناطق "أولوية أيديولوجية"، أضيف إليها مؤخراً مناطق تتمتع بميزة "أولوياتها الاقتصادية"، كون أراضيها وعقاراتها هي الأرخص ثمناً من تلك التي في المستوطنات الكبرى. بهذا التوجه المسبق لا تُبقي حكومة نتانياهو لمفاوضات "التسوية المؤقتة" أو "النهائية" أي أمل بالعودة إلى حدود العام 1967؛ فبعد إعلانها ضم 91 مستوطنة معظمها يقع شرقي جدار الفصل العنصري، إلى ما اسمي "خريطة الأولويات القومية"، لاسترضاء المستوطنين؛ ها هي تلك الحكومة تأمر طاقم الحقوقيين بالبحث عن "حلول" تحول دون هدم أي منزل أقيم على أرض فلسطينية خاصة، ومن ضمنها تلك المستوطنات التي يطلقون عليها تسمية "عشوائية" ولاسترضاء المستوطنين أيضاً؛ بينما يقترح هؤلاء البناء على أراضي "الغائبين".على غرار الاستيطان الذي تم في مناطق الجليل والمثلث والنقب، أو الطعن في الملكية الخاصة للأرض، أو تعويض صاحب الأرض بداعي أن الهدم ليس الحل الوحيد. أما المستوطنون ومن جانبهم، وعبر عصاباتهم الإرهابية، فقد باتوا يضيفون المزيد من التطرف والسلوكيات المدعومة من جانب حكومة "الأولويات القومية"، التي يريدها اليمين الفاشي، عنواناً لسلوكه المتصلب في اندفاعه نحو رفض كل ما من شأنه الوصول إلى تسوية ما، لا تأخذ إلاّ بالشروط الإسرائيلية للمفاوضات في حال استئنافها. فإضافة إلى قرارات التصلب والتطرف الصادرة عن الحكومة وعن الكنيست، يصر المستوطنون على المضي من جانبهم، في ما اسموه "جباية الثمن" عبر القيام بأعمال إجرامية وحشية ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم. وفي هذا الإطار تجئ عمليات إحراق المساجد وتخريبها وإشعال النار في ممتلكات الفلسطينيين وإطلاق النار عليهم؛ حيث تقف وراء مثل هذه العمليات التي حصلت وقد يحصل المزيد منها مستقبلاً، مجموعات من المستوطنين المتطرفين الذين يبدو أنهم بدأوا العمل بشكل سري منذ آب (أغسطس) الماضي. وفي كل الأحوال لم تبق حكومة الائتلاف اليميني للسلطة الفلسطينية، سوى المضي في توجهها القاضي بمحاولة الحصول على اعتراف الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بطلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران، وهو الطريق الأوحد أو الأحادي المُتاح عملياً، بعد أن سد نتانياهو وائتلافه الحكومي كل الطرق التي يمكن أن تفضي نحو إيجاد مسالك لشراكة تفاوضية، أو لاحتمال استئناف مسيرة عملية سياسية تؤدي إلى إيجاد أفق لتسوية ممكنة تفضي نحو إقامة دولة فلسطينية. وكما قال آري شافيت (هآرتس 25/5) في أعقاب الزيارة الأخيرة لنتانياهو لواشنطن: "إننا نذهب في طريق مسدود، فنتنياهو صنع سلاماً مع الكونغرس، إلاّ أنه أدار ظهره للعالم" وأضاع فرصة وإمكانية العمل على تسوية مع الفلسطينيين، وهو في الأساس لم يكن يسعى باتجاه مثل هذه التسوية، بقدر ما كان يسعى لتطويع الفلسطينيين والعرب وضمهم إلى مشروعه الواضح في استبعاد التسوية من حيث المبدأ، عبر إعادة التأكيد على مشروع تسويته الخاصة، الذي يستبعد من بنوده إقامة دولة فلسطينية مستقلة حقاً، ناهيك عن رفضه المطلق كافة بنود التسوية الممكنة. وقد ذهب ناحوم برنياع في "يديعوت أحرونوت) إلى حد القول إنه إذا كانت هناك فرصة صغيرة لاستئناف المفاوضات قبل الزيارة (زيارة نتانياهو إلى واشنطن) فلا يوجد الآن أية فرصة لإعادة إطلاقها؛ بعد أن قام نتانياهو عملياً بنسف كل أساساتها. داخلياً، وحتى هذه اللحظة، وفي ظل عودة الأجواء التي سبقت الوصول إلى توقيع اتفاق المصالحة، فإن الاتفاق بات يواجه تهديدات جدية بالتراجع عنه، من جانب طرفيه الموقعين عليه، بعد أن لم يستطيعا المراكمة عليه، أو إنجاز المزيد من خطوات تذليل عقبات استعادة وحدة الأداة الكفاحية الموحدة للحركة الوطنية، منذ جرى اقتسام أوضاع المعطى الوطني قبل أربع سنوات، مضت خلالها غزة و"حكامها الجدد" إلى المجهول، وها هي السلطة تغامر بالدخول في مغامرة مجهول آخر. وهكذا بين غياب أو عدم وجود جوهر سياسي ثابت أو متحرك، في الوضع الوطني، وتفكك واهتراء النظام السياسي الفلسطيني وتقاسمه حصصا ومغانم فئوية وفصائلية، وتخلّق أوضاع طبقية واجتماعية زبائنية، هل يمكن لاتفاق "المصالحة" أن يمضي صوب تحققاته كمنجز يعوّل عليه، في ظل معطيات تؤشر إلى أن العقبات والمعيقات تصدر من طرفيه الأساسيين الموقعين عليه، وهو المآل الأخير الذي "صودف" أن آل إليه بفضل الفاعلين المحليين (فتح وحماس)، وإن صودف هناك نيات مؤكدة، قضت وتقضي بعدم إنجاح الهدف الفلسطيني من الاتفاق في الأساس، للوصول إلى الخطوة التالية التي تتعلق بالمفاوضات، وما إذا كان هناك توجه فلسطيني لإنجاحها أو لإحباطها، ما يفتح الباب واسعا لاستكمال خطوة التوجه إلى الأممالمتحدة، لنيل اعتراف دولها بالدولة الفلسطينية، وهو الخيار الوحيد الذي تتبناه القيادة الفلسطينية، فماذا لو فشل هذا الخيار؟ وأين يكمن البديل أو البدائل التي يُقال إنها الخيارات المتاحة من قبيل المقاومة الشعبية أو الانتفاضة الثالثة، أو العودة إلى العمل المسلح، أو أي خيار ترجحه قوى الحركة الوطنية الفلسطينية بإجماعها؛ إذا كان لم يزل هناك فرصة لإجماع وطني يعتدّ به؟.. وفي كل الأحوال ألا يستدعي التوصل إلى صفقة بين "حماس" وحكومة الاحتلال، التوصل إلى صفقة مماثلة، بين "حماس" و"فتح"، لاستعادة شرط الوحدة الوطنية، بما هو الشرط الشارط لقيام الدولة الفلسطينية؟.