لم تنتظر السلطة الفلسطينية هدوء دخان مدافع إسرائيل وغبار القنابل التي أمطرتها فوق المساكن والمدارس والمستشفيات في قطاع غزة على مدى أسابيع، بل أوفدت وزير خارجيتها رياض المالكي الى لاهاي حيث اجتمع مع المدعي العام الحكمة الجنائية الدولية في لاهاي فاتو بنسودا، وأبلغها عن الجرائم الخطيرة التي ترتكبتها حكومة إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. وقال مصدر ديبلوماسي إن المالكي استفسر من بنسودا وطاقمها «عن جميع الخطوات والقضايا القانونية والإجرائية التي يتوجب على دولة فلسطين أن تقوم بها للالتحاق بمحكمة الجنايات الدولية، والتوقيع على ميثاق روما، بما فيها اختصاصات المحكمة الموضوعية، مثل جريمة الإبادة الجماعية، وجريمة الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم العدوان، واختصاصاتها الإقليمية، والزمانية، وغيرها من الأمور الواجب التعرف عليها وتوضيحها مسبقاً». وتأتي محادثات المالكي إثر الشكوى التي قدمها وزير العدل الفلسطيني في حكومة الوحدة الوطنية سليم السقا والنائب العام الفلسطيني في غزة إسماعيل جبر إلى المحكمة الجنائية الدولية باسم دولة فلسطين في 24 تموز (يوليو) الماضي. وبينما رأى البعض أن الشكوى قُدمت باسم السلطة بحكم انتماء وزير العدل لحكومة الوفاق، فهمَ آخرون أن الشكوى قُدِّمتْ بدفع من أطراف «حمساوية» في غزة في وقت لم تستكمل فيه السلطة مسار الانخراط في عضوية المحكمة والمصادقة على معاهدة روما. وتثير الشكوى تجاذباً قد يكون مضراً لأنه يحيط الملف بشكوكٍ غير مقبولة، كما انه تجاذب ناجم عن نقصٍ في طبيعة المحادثات في ما بين الفصائل الفلسطينية في شأن الوقت المناسب لتقديم الشكوى إلى المحكمة الجنائية. وكان عضو اللجنة التنفيذية لحركة «فتح» الدكتور صائب عريقات كشف قبل يومين أن فصائل منظمة التحرير وكل أعضاء اللجنة المركزية للحركة وقعوا على مذكرة تدعو إلى المصادقة على معاهدة روما والانضمام الى المحكمة الجنائية الدولية «بما يترتب عن ذلك من التزامات». وقال في لقاء صحافي: «عرضنا المذكرة على رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، لكنه طلب مهلة لدرسها»، مشيراً الى أن «المذكرة لم تعرض على حركة الجهاد الإسلامي بعد». وقد يعود تردد بعض الفصائل في القبول المبدئي والعلني بالانضمام إلى محكمة لاهاي وتقديم الشكوى، بعد المصادقة على معاهدة روما، إلى خوفها من أن يطاول القضاء الدولي أيضا القادة الميدانيين الذين يطلقون الصواريخ ضد الإسرائيليين، مثلما سيطاول قادة الجيش والحكومة في اسرائيل. ويصف بعض رجال القانون الصواريخ التي أطلقت من غزة بأنها «قصف عشوائي يستهدف المدنيين، ولا يميز بينهم وبين الأهداف العسكرية»، وهو ما يأخذه ُ الرئيس الفلسطيني في الحسبان، ويشترط قبل التوجه إلى لاهاي موافقة الفصائل على توقيع المعاهدة. واعتبر الأستاذ ستيفن ديفال في مكتب المحاماة الفرنسي «جيل ديفيرس» أن محادثات المالكي في لاهاي «تدعم الشكوى التي قدمها مكتب ديفيرس باسم وزير العدل لأنهما ينتميان للحكومة نفسها». وذكر ل «الحياة» أن فلسطين اعترفت في 22 كانون الثاني عام 2009 في أعقاب عملية «الرصاص المصلوب»، باختصاص المحكمة فوق جميع الأراضي الفلسطينية، لكن الدعوة التي قُدمت ضد إسرائيل أُغلقت من المدعي العام «بعد ضغوط مورست على أعلى المستويات». وأضاف في شأن الإجراء المقدم الآن بأنه «مؤكد ومحتم، إذْ سبق للمحكمة الجنائية الدولية أن قامت بإجراءات من هذا القبيل في الماضي. وهي اليوم تحاكم الرئيس السابق لوران غباغبو على أساس إعلان التخصص القضائي للمحكمة من جانب حكومة الرئيس الاسان واتارا. وهو الإعلان نفسه الذي قامت به فلسطين»، إضافة إلى كونها أصبحت عضواً مراقباً في الأممالمتحدة، و»من وجهة النظر القانونية البحتة، ليس هناك أي عقبة أمام حسن سير الإجراء الذي سيكون قابلاً للنظر بشكل كامل حال تلقيه الدعم اللازم من الناحية السياسية». وتتعرض السلطة الفلسطينية إلى ما يشبه الابتزاز من جانب الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وإسرائيل، والتي تربط مواصلة المفاوضات بالتحفظ عن التوجه إلى المحاكم الدولية، سواء بالنسبة للجرائم الخطيرة التي يجري ارتكابها من قوات الاحتلال، أو تلك المتصلة بتوسيع الاستيطان وعنف المستوطنين.