مع التغيرات الحاصلة في المنطقة التي تنتسب الى «الربيع العربي» يعاد طرح موضوع السياحة وتأثره بما يحدث أو بما يمكن أن يحدث فيه مع وصول قوى جديدة الى الحكم لها وجهة نظر مختلفة حول مفهوم وواقع السياحة. ومن النقاشات التي تدور في الاسابيع الاخيرة، التي كانت الموسم للسياح القادمين من أوروبا طلباً للشمس والدفء، كان هناك من يطرح الاهتمام ب «السياحة الدينية» لتعويض بعض التراجع الحاصل في منطقة (حوض المتوسط) تتنافس بقوة على جذب المزيد من السياح لما يمثله ذلك من أهمية للاقتصاد هناك. ومع أن تلك الدول (وبخاصة اليونان وصربيا) سبقت في طرح «السياحة الدينية» لاجتذاب المزيد من السياح وليس لاستبدال سيّاح موجودين بسيّاح مفترضين، إلا إنها لا تكتفي بذلك بل هي تستثمر تراثها الادبي الذي أصبح موجوداً في العالم فيما يمكن أن نسميه «السياحة الثقافية» التي ترتبط بأسماء كتّاب باتوا معروفين في العالم والتي يمكن أن تدمج في برنامج سياحي نظراً لأنها لا تأخذ سوى ساعات. ومن هذا لدينا برنامج جديد بدأ في يوم السبت 6 أيار (مايو) الجاري في بلغراد أطلق عليه «على خطى آندريتش» يتضمن جولة لساعتين فقط (يمكن أن تزاد فيما بعد) تشمل أهم الاماكن التي عاش فيها أندريتش أو كان يعمل فيها أو يشرب القهوة مع زملائه من الكتاب. ومع أن ايفو آندريتش هو من كروات البوسنة، ولد عام 1892 في ترافنيك وترعرع في فيشغراد وهما المدينتان التي سيكتب عنهما أشهر رواياته («جسر على نهر درينا» و «وقائع مدينة ترافنيك»)، إلا أن آندريتش استقر في بلغراد منذ 1941 بعد خدمة طويلة في وزارة الخارجية خدم فيها في سفارات عدة لمملكة يوغسلافيا الى أن انتهى به الامر سفيراً في برلين 1939-1941. في بلغراد التي غدت عاصمة ليوغوسلافيا التيتوية توهج آندريتش بعد أن غدا رئيساً لاتحاد الكتاب واصبح يحظى بدعم كبير لترجمة مؤلفاته الى لغات العالم، وهو ما ساعد على أن يفوز في 1961 بجائزة نوبل التي أدت الى موجة جديدة من الترجمات لمؤلفاته وترجمت أيضاً الى اللغة العربية بفضل وجود سامي الدروبي سفيراً لسورية في بلغراد خلال 1964، وهو الذي أبدع في ترجمته لاعمال آندريتش («وقائع مدينة ترافنيك» و «جسر على نهر درينا») مع أنه أنجزها عن الفرنسية. ومع أن آندريتش كان من نجوم يوغوسلافيا الملكية إلا أن هذا لم يمنع النظام الشيوعي الجديد في يوغوسلافيا أن يستثمر آندريتش سواء في الداخل أو في الخارج بعد أن فاز بجائزة نوبل للاداب الى أن توفي في 1975. ومع أن يوغوسلافيا التي عمل لأجلها آندريتش في شبابه قد انهارت إلا أن الدول التي انبثقت عنها تسعى الى استثمار ذكراه ومعجبيه سواء في البلقان أو في العالم. ففي البوسنة هناك مشروع كبير الآن لإنجاز مدينة سياحية متكاملة في فيشغراد (التي تدور فيها أحداث رواية «جسر على نهر درينا») تشعر السائح بأنه يتجول في الرواية على أرض الواقع. ونظراً الى أن بلغراد هي التي المدينة التي استقر فيها آندريتش وكتب فيها أشهر رواياته فقد سعت صربيا التي ورثت يوغوسلافيا السابقة الى استثمار ذكرى آندريتش ومعجبيه لدى السياح الذين يأتون لزيارة صربيا أو بلغراد فقط وأطلقت في الذكرى الخمسين لحصوله على جائزة نوبل برنامجاً للترويج السياحي يشتمل الآن هذا على جولة سياحية «على خطى آندريتش في بلغراد» لتكون من الآن جولة سياحية اسبوعية تتم في عطلة الاسبوع لتشمل الاماكن التي عاش وأبدع وعمل فيها آندريتش. وعلى حين أن الجولة الاولى جعلت مجانية إلا أن الجولات الللاحقة ستكون بمبلغ متواضع (400 دينار صربي أو خمسة دولارات) تشمل فنجان قهوة او كوب شاي في حديقة فندق موسكو في مركز بلغراد الذي اعتاد فيه آندريتش شرب القهوة مع أصدقائه. هذا النوع من «السياحة الثقافية» هو ما نفتقده وما نحتاج اليه في المنطقة. فمع الملايين التي تزور مصر لدينا من يهتم بالتأكيد ببرنامج مماثل «على خطى نجيب محفوظ في القاهرة» تشمل خلال ساعات الاماكن التي عاش فيها وكتب عنها في روايته وانتهاء بالمقهى الذي كان يجالس فيه أصدقاءه من مصر وخارجها (مقهى ريش). مع هذه «السياحة الثقافية» نعيد الاعتبار للسياحة والثقافة معاً لأن السياحة الى لبنان ومصر وسورية مثلاً ترتبط بالاذهان بأماكن محدودة وممارسات معينة بينما لدينا الكثير من السياح القادمين الى هذه البلدان ممن قرأوا لنجيب محفوظ وشاهدوا الافلام والمسلسلات التي استوحت أعماله ويرغبون برؤيتها على أرض الواقع وصولاً الى شرب الشاي في مقهى ريش.