تتناقل قرى الأحساء، قصصاً تُعبّر عن شخصية العمدة، الذي استقى شخصيته من منصبه الذي أعطته الدولة إياه ، ليكون ممثلاً لها، وجسراً للتواصل بينها وبين المواطنين. وفرضت هذه الشخصية «الصارمة» في غالبية الأحيان قانوناً خاصاً بها، لا يزال يُذكر، على رغم مرور عقود، ضعفت خلالها مكانة هذا المسؤول، وتحول المنصب إلى مسمى «شرفي». وتمتع العمدة بسلطة «قوية» لا تختلف عن سلطة رجال الشرطة ودورهم، بل وحتى دور القضاة، ليجمع سلطات عدة يتمتع بها في الدائرة المسؤول عنها، من بينها التنفيذية والتشريعية والقضائية. وفي عام 1399ه، كان للعمدة مسلم محمد، نفوذاً «كبيراً» يمثل اللون السائد في ذلك الزمن، و»قوة كبيرة»، نابعة من «رضا المجتمع» المحيط به بما يُصدره من أحكام وقرارات، تُنفذ من دون تردد. وكان لهذا العمدة دور كبير في استتباب النظام والقانون في بلدته الصغيرة (شرقي الأحساء). ويروي عبد الله عبد الوهاب، وهو واحد ممن شهدوا فترته الأخيرة، وعاصروا عُموديته، قصصاً عن هذا الرجل، ويقول ووجهه مليء بابتسامة غريبة: «كان شخصية صارمة جداً، ومميزة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وكان يلعب دوراً كبيراً في نظام المجتمع والمحافظة عليه، ويتميز بالقيادة والانضباط». ويوضح عبد الوهاب، أنه «لم يكن دور العُمد في ذلك الوقت، ومنهم مسلم، مقتصراً على توقيع الأوراق وتصديق المستندات، وإحضار من يُطلبون للمثول أمام القانون من أبناء البلدة، بل كان يتعدى ذلك، إذ كان يجلس في مجلسه، الذي يستقبل في كل ليلة، أشكالاً وألواناً من الشكاوى والمُنازعات، وكانت تعلو وجهه هيبة تسيطر على جميع الجالسين، فلا يمكن أن تسمع أحاديث جانبية، ولا يمكن أن يقترب منه أحد ، من دون أن يأذن له». وجرت العادة أن يتوسط العمدة صدر المجلس، وبقربه كاتب يعاونه على تصديق الأوراق ومراجعتها، وآخر للضيافة والاهتمام بمن يفدون إلى المجلس من ضيوف وأصحاب حقوق. ويقول عبد الوهاب: «يبدأ الناس بالتوافد على مجلس العمدة من بعد صلاة العشاء، ويعقد المجلس لساعة ونصف الساعة، ويمكن أن يمتد لساعتين، وفي الليالي التي لا يوجد فيها مراجعين؛ يكون المجلس شبيه بندوة حوارية مصغرة، يتم فيها تناول قضايا المجتمع، وسط شد وجذب، لتكون كلمة الفصل للعمدة». ومُنحت السلطة التي يتمتع بها العمدة، من قبل المجتمع، ويتذكر عبد الوهاب «عندما كنت طفلاً كنت أتجمهر مع المتجمهرين في الوقت الذي كان يُنفذ حكمه في أحد المخطئين، وأتذكر أنني رأيت جلد أحد الرجال حاول سرقة زوج أخيه، فما كان من العمدة إلا أن أمر بجلده ليكون عبرة لغيره». وكان العمدة مسلم، إلى جانب رأيه في القضايا وتنفيذ الأحكام فيها بسرعة ، يملك غرفة تطل على الشارع العام، وتحوي هذه الغرفة زنزانة مخصصة لتنفيذ عقوبة السجن، لفترة يحددها هو، بحسب الجناية التي أوصلت صاحبها إلى زنزانة العمدة. والغرض من هذه الغرفة بحسب عبد الله أن «يمر الناس بالقرب من تلك النافذة؛ ليشهدوا عقاب هذا المخطئ و ليتورع غيره عن الإتيان بما أجرم». ومَنح العُمد قديماً السلطات الأمنية راحة كبيرة، إذ يقومون بالتعاون المشترك لحفظ الأمن والاستقرار، مستغلين ثقة المجتمع في هذه الشخصية. ومثّل العمدة «السلطة الأبرز والأقوى، إلى جانب رجال الدين، وكانت هذه المهنة حكراً على بعض الأسر، يتوارثونها جيلاً عن جيل، لكونها تشريف ومكانة اجتماعية». و كان العمدة يستقبل الناس على فترتين، الأولى نهاراً وغالباً ما تكون خارج منزله، كمزرعته، أو الساحة العامة للقرية، وليلاً في مجلسه. ويتكون مجلس العمدة، والذي غالباً ما يكون كبيراً جداً، من زوايا خدمية عدة، منها زاوية الكاتب، الذي يستمع لطلبات الناس، ويفصلها بحسب الأهمية، ويعطيها للعمدة في شكل موجز، وزاوية المستخدم الذي يقوم بالوقوف على ضيافة زوار العمدة، والذي يجيد إعداد القهوة العربية، والشاي الشعبي، وشراب الزنجبيل والليمون الأسود، فيما يشغل ما تبقى من المجلس أصحاب العمدة مناصفة مع أصحاب المشكلات. ويقول عبد الله: «لا يمكن أن يجلس أحد في صدر المجلس، عدا العمدة، وذلك لأسباب منها بروتوكولية، وأخرى اجتماعية، إذ يمكن لمن لا يريد لأحد أن يستمع لشكواه، إن كانت خاصة جداً أن يهمس بها للعمدة، والذي يقوم بحلها بهمسات لا يكاد أحد ممن يتواجدون في المجلس سماعها»، مضيفاً أن «كثير من القضايا التي تبقى في محاكمنا لأشهر، وربما لسنوات، كانت تُحل في جلسة لا تتجاوز بضع دقائق، إذ يكون رأي العمدة جازماً». واعتمد المجتمع قديماً، على العمدة لكونه الشخصية التي تستطيع أن تقرأ وتكتب، في الوقت الذي كانت الأمية مهيمنة على أفراد المجتمع، وكانت شخصية تستطيع أن تدخل على كبار إداريي المنطقة، الذين لا يمكن أن يهملوا دعوة العمد للمناسبات العامة والخاصة، ما منحهم مكانة رسمية «مميزة جداً». ويذكر عبد الإله العيسى (80 سنة) كيف كانت أحكام العمدة «صارمة». ويقول: «كنت برفقة والدي في مجلس العمدة حين اقترب أب وابنه إلى جوار العمدة، وبدأ الأب يسرد حكايته، وإذا بصوت قوي يخترق هدوء المكان أفزعنا، يأمر مساعديه بأن يجلدوا الولد 20 جلدة على قدميه، وبعد خروج الابن التفت العمدة إلى الجميع، وسرد قصة الأب وابنه». فلقد كان الابن لا يعطي والده مصروفاً شهرياً، ويعامله ووالدته بقسوة. وما فاجأ الجميع أن الأب لم يشتكِ ابنه إلى العمدة، بل وصلت قصتهما له من طريق جلاسه في المجلس، فأحضر الأب وابنه، ليسمع القصة، ما يشير – بحسب عبد الإله – إلى «قوة النفوذ الذي يتمتع به العمدة. وكانت ال20 جلدة افتتاحية لعقاب آخر ناله الابن فيما بعد».