تكون «النكتة» صفراء حيناً وسوداء حيناً، وفي أحيان سمجة، غاية في السماجة... «النكتة» يصنعها تارة أصحابها ليسخروا من أنفسهم، قصداً أو عن غير قصد، وطوراً يصنعها الآخرون ليسخروا من آخرين، قد يكونون من خصومهم أو من الأصدقاء. التهمة التي طاولت الشاعر أدونيس قبل أيام هي «نكتة» سوداء، سوداء فاحمة مثل قلوب «الشبّيحة» الذين أطلقوها واصفين إياه ب «الخائن والعميل والمجرم والمجنون»... ولم يقصروا تهمتهم على هذه الصفات «الحميدة» فقط، بل أصدروا ما يشبه «الفتوى الفايسبوكية»، هادرين دمه وشعره واسمه، وأعلنوه «مطلوباً» حياً أو ... «مزحة» سمجة حقاً، قبيحة وكريهة، هذه التي أطلقها عبر صفحات الانترنت أشخاص لا يعلم أحد مَن هم، ولا في أي «خندق» يقيمون... الثوار السوريون الحقيقيون لا يمكن أن يقترفوا مثل هذه الفعلة، إذا تمّ الافتراض أنّ أدونيس خارج الثورة أو غير مؤيد لها... علماً أن أدونيس كان حراً في إبداء رأيه في ما يحصل في سورية، وفي مناقشة أفكار الثورة وأحوالها... وسواء أصاب أم أخطأ فهو لم يقفل باب الحوار، ودعا خصومه اليه، فلبّى بعضهم الدعوة وقام بينهم وبينه سجال معلن... أما أن يُدرج هؤلاء «المناضلون» اسمه في «لوائح القتلة» وأن ينشروا له على «الانترنت» صورة مضرّجة بالدم، فهذه «مزحة» شريرة تخبئ في صميمها دعوة الى القتل. ولعلّ الردود التي بادر الى إعلانها مثقفون سوريون وعرب، يناضلون في صفوف الثورة السورية، مدافعين عنه وعن آرائه، هي خير دليل على أنّ «التهمة» الموجهة الى أدونيس يقف وراءها أشخاص قذرون وقبيحون وأشرار. ومهما بلغ تشكيك أدونيس في الثورة فهو يظلّ في منأى عن أي اتهام أو تخوين. هذا الشاعر هو أحد صانعي أسطورة الحرية في العالم العربي. «نكتة» أخرى لا تقل سماجة عن «التهمة» التي وجّهت الى أدونيس، لكنّها تختلف عنها، في كون صاحبها هو الذي صنعها أو شاء أن يصنعها «الآخرون» وفق مشيئته. الروائي الجزائري الفرنكوفوني المعروف بوعلام صنصال لبّى دعوة «مهرجان الأدباء العالمي» الذي تقيمه إسرائيل في القدس المحتلّة، بلا حرج ولا تردّد، ولم يبال بالأصوات الفلسطينية والجزائرية التي دعته الى رفض الدعوة واصفة مشاركته ب «التواطؤ مع جرائم الاحتلال» وب «التطبيع الذي لا لبس فيه». حلّ بوعلام صنصال بدءاً من أمس «ضيف شرف» على هذا المهرجان الذي يقام احتفالاً بذكرى تأسيس إسرائيل على الأرض الفلسطينية المضرّجة بدماء أهلها الأصليين. بوعلام صنصال حرّ في اختيار قراره، والمسألة ليست مسألة تخوين أو اتهام. هذا واحد من أهم الروائيين الجزائريين الذين اختاروا الفرنسية لغة تعبير وهوية أو انتماء. وقد ساعده موقفه «التطبيعي» في الوصول الى «العالمية» وفي الفوز بجوائز أدبية مرموقة. بوعلام صنصال حرّ في تلبية الدعوة الاسرائيلية وفي لقاء قرائه الاسرائيليين ومحاورتهم، لكنّ قراءه العرب والمثقفين الفلسطينيين والجزائريين يحق لهم أن يسائلوه ويشككوا بصدقيته – وليس بمكانته الروائية -، بخاصّة أن مشاركته في هذا المهرجان الرسمي ترافقت مع أهم عصيان يقوم به أسرى فلسطينيون في سجون العدو، مضربين عن الأكل والشرب، وقد سقط الكثيرون منهم مغمياً عليهم، مصرّين على نيل أقل الحقوق التي نصّت عليها الشرعة الدولية. كيف سنقرأ بوعلام صنصال بعد اليوم، بعد هذه «الفضيحة» أو هذه «النكتة» السمجة والصفراء؟ هل سنقرأه ب «المتعة» نفسها التي قرأنا بها مثلاً روايته البديعة «قسم البرابرة»، وهي تدور حول الجزائر التي فقدت ملامح ماضيها خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة، والتي يجدها عبدالله – البطل – بعيد عودته من فرنسا أشبه ب «الجحيم»؟. «نكتة» أخرى فاجأ زياد الرحباني جمهوره بها، عندما أطلّ قبل أيام جالساً في الصفّ الأول في مهرجان «المربّع الأمني» الذي أعيد بناؤه بعدما دمّرت طائرات العدوّ الاسرائيلي أجزاء منه. بدت إطلالة الرحباني الكبير مفاجئة جداً، هو المحتجب عن جمهوره الكبير منذ أعوام. أفردوا له كرسياً في الصف الأول، الى جانب السياسيين الموالين ل «حزب الله» وبعض رجال الدين... لم يرتد زياد الوشاح الأحمر ولا علّق صورة لينين على صدره، كما كان يفعل سابقاً، هو «البولشيفي» الصادق والنقيّ، الذي لم يهادن يوماً ولم يتواطأ، على رغم المآخذ التي سجّلها عليه جمهوره «اليميني». لا أدري ما الذي دفع زياد الرحباني الى مثل هذه الإطلالة في مهرجان يرعاه حزب طائفي بل مذهبي، يكاد يفقد شرعيته التي منحه إياها اللبنانيون، بعدما اجتاحت جنوده بيروت وأذلّت أهلها، بل بعدما أطلق - هذا الحزب - أصحاب «القمصان السود» ليروّعوا البلد وأهله... «مزحة» رحبانية صفراء وربّما بيضاء، لكنّ زياد الرحباني وحده تغفر له ذنوبه و «مزحاته» تبعاً لعبقريته ونزاهته ونظافة يديه... أما «النكتة» السمجة الأخيرة فهي مصرية وقد أطلقها الشاعر فاروق شوشة عندما أصرّ على إعلان وفاة الشاعر محمد الفيتوري وكتب فيه مرثية توقّف فيها عند خصاله الشعرية وفرادة صوته الطالع من عمق المأساة الافريقية... وعاتب شوشة في «أخبار الأدب» الكتّاب والصحافيين العرب على تجاهلهم هذا الشاعر في لحظة رحيله... هذه «نكتة» سمجة وإن كانت بريئة، فالشاعر ما زال حياً، يعاني الألم على فراش مرضه المزمن في الرباط، المدينة التي اختارها منفى أخيراً له، هو «الدرويش» الجوّال.