ربما كان التيار الأسعد باندلاع «الربيع العربي» هو التيار الليبرالي على تنوعه في مختلف البلدان. ويرجع هذا الطرح إلى أكثر من اعتبار. أول هذه الاعتبارات أنه بدا للوهلة الأولى أن الثورات والانتفاضات والحركات الاحتجاجية تحركها في الأساس مطالب تتصل في شكل جوهري بالدعوة لاستعادة الحريات والحقوق المدنية والسياسية وترسيخ مبادئ الديموقراطية السياسية. وثاني الاعتبارات قناعة بعض القوى الليبرالية العربية بأن الليبراليين الذين أطلقوا، أو على الأقل ساهموا بدور كبير في إطلاق، أحداث «الربيع العربي»، قادرون على قيادة هذه الفعاليات حتى النهاية وعدم ترك هذا الدور القيادي لقوى فكرية وسياسية أخرى. والثالث أن بعض القوى الليبرالية كان لديها يقين بأنه إذا تمت إزالة النظم الاستبدادية أو شبه الاستبدادية، فإن المواطن العربي سينحاز الى التيار الليبرالي في ظل رفع القيود التي كانت مفروضة عليه، حتى من الحكومات التي كانت صديقة أو حليفة للغرب وكانت ترفع شعار التحول التدريجي نحو الديموقراطية التعددية. من المؤكد أن هناك مساحة من الهواجس لدى هذه القوى لم تكن موجودة خلال ثورتي تونس ومصر أو عقب نجاح الثورتين مباشرة في الإطاحة برأس الدولة. كذلك من الثابت أن هناك تطورات أخرى على مسار فعاليات «الربيع العربي» (ومرة أخرى هنا نركز على الحالتين التونسية والمصرية)، لم تأت وفق توقعات أو آمال التيارات الليبرالية العربية. والواقع أن تداعيات أحداث «الربيع العربي» تبدو وكأنها طرحت تحديات جمة على القوى الليبرالية العربية، وذلك بالقدر ذاته الذي فتحت فيه نافذة، أو حتى نوافذ، لفرص متاحة أمامها للتحرك والعمل. فقد أثبتت فعاليات «الربيع العربي» أن التيارات الليبرالية تفتقر إلى الشعبية التي تمكّنها من حصد الغالبية في انتخابات اتفق معظم المراقبين على وصفها بأنها الأكثر نزاهة وشفافية وحرية في تاريخ البلدين المعاصر، مع كل ما قد يكون لدى البعض هنا وهناك من تحفظات على جانب أو آخر منها. وعلى رغم دور هذه التيارات في إطلاق الكثير من شرارات «الربيع العربي» بل الصمود في فعالياته وقيادة الكثير منها، فإن الغالبية ممن مارسوا الحق في التصويت منحوا أصواتهم للتيارات ذات المرجعية الإسلامية. التيارات الليبرالية في أغلبها غابت لعقود طويلة عن ساحة العمل الخدمي والطوعي الذي يستهدف توفير وضمان احتياجات أساسية للمواطن العادي وأسرته، وذلك على النقيض من الحضور الواضح والفعال للتيارات ذات المرجعية الإسلامية، والتي وجدها هذا المواطن تقف إلى جانبه في مسعاه اليومي لتوفير احتياجاته واحتياجات أسرته اليومية، لا سيما في ظل استفحال الغلاء ومعدلات التضخم. ويعني ذلك ببساطة أن على القوى الليبرالية مهمة عاجلة، أقر بعض قادة تلك التيارات بإلحاحها وأهميتها، ألا وهي سرعة استثمار الشعبية النسبية التي اكتسبتها خلال ثورات «الربيع العربي» بعدم الاكتفاء بالتواصل مع الجماهير في شكل موسمي في أوقات الانتخابات أو عند الحاجة الى تعبئة دعم هذه الجماهير لمواقفها، بل إقامة آليات ذات طابع مؤسسي للتواصل في شكل يومي وعلى مستويات الشارع مع المواطنين العاديين، ليس فقط في العواصم أو المدن الرئيسة، بل، وربما ذلك قد يكون الأهم، في المدن الصغيرة والقرى، بهدف تعبئة موارد من قيادات وأعضاء وأنصار هذه التيارات الليبرالية لإقامة مشروعات توفر فرص عمل للعاطلين من العمل أو الساعين الى تحسين مستويات أجورهم، وللمساعدة في توفير الاحتياجات اليومية والضرورية للمواطنين، وإن كان هذا الأمر لا يخلو من اتخاذ قرارات صعبة في بعض الأحيان من جانب تلك التيارات للمواءمة بين الإقدام على مثل هذه الخطوات وبين القناعات الأيديولوجية لبعض تلك التيارات التي ما زالت تتمسك حرفياً بمقولات الليبرالية التقليدية الخاصة بالإيمان المطلق بالسوق الحر وآلياته. ولا شك في أن الرابح الرئيس من نزول كل التيارات إلى الشارع هو المواطن العربي الذي سيجد أكثر من تيار يدعم مطالبه الحياتية، ليس فقط عبر الخطاب السياسي والإعلامي، بل على الأرض وعبر خطوات ملموسة تعمل على مساعدة جهود الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى في إخراج هؤلاء المواطنين من الحلقة المفرغة للفقر والحرمان والتهميش.