مثلما كان الفريق الغنائي السويدي الشهير «آبا» دالاً على بلاده، بحيث صارت مبيعات أسطوانته في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته تدرّ مالاً أكثر مما تدره شركة «فولفو» للسيارات، صار اسم المغني بوب مارلي دالاً على بلاده: جامايكا، وذلك إلى درجة أن لا إعلان يروّج للسياحة الآن في ذلك البلد الكاريبي إلا تكون واحدة من أغنيات صاحب «نو وومان نو كراي» خلفية موسيقية له. عن هذا المغني وأسلوبه الغنائي «الريغي» الذي صار مقترناً عالمياً بتظاهرات الاحتجاج السلمية، جاء الفيلم الوثائقي «مارلي» للمخرج الاسكوتلندي كيفن ماكدونالد، والذي بدأت عروضه في الصالات الأميركية الأسبوع الماضي، وتضمن قراءة فنية مرهفة وصادقة لسيرة المغني الذي مات متأثراً بالسرطان وهو في قمة عطائه، إذ لم يتجاوز السادسة والثلاثين حين وفاته عام 1981. وفي هذه المناسبة يحلو استرجاع مارلي من زوايا ليست مألوفة كثيراً بعد، خبايا حياته كرجل هو الذي صنع الفنان. والحال إن حكاية مارلي لا تنحصر في تحولاته في الموسيقى والفكر والسياسة، ولا في علاقته بالمخدرات (مدمن ماريوانا) ولا في علاقاته النسائية الكثيرة (11 ولداً وبنتاً من 7 علاقات بينهم زيغي المغني والمنتج المنفذ للفيلم البالغ 44 سنة اليوم)، بل إنه يملك قصته الأيقونية الخاصة، كمثال على قدرة الفن على التعبير عن الذات والبيئة وصولاً إلى المشترك الإنساني، وهو ما وصل إليه صاحب «وان لوف وان هارت». لحظات إنسانية كثيرة، إذا نبشت، تظهر اتصالها بجوهر حياة صاخبة لمارلي. فبعد اكتشاف سرطان الجلد الخبيث في إحدى قدميه، رفض العلاج عبر بترها، ذلك انه سيوقفه عن المتعة في الغناء الحي، وعن الرقص أثناء أدائه العروض الغنائية بصحبة فريقه «وايلرز» (النائحون). ومن يطّلع على حكايات نشأته العابثة في الأحياء الفقيرة، ولاحقاً مع النساء والمخدرات وإجادته كرة القدم، تتراجع عنده صورته التقليدية التي تقاربه وكأنه «مثال أعلى»، حتى وإن عادت أصولها إلى مشهد العذاب الأسطوري للأفارقة المهجرين إلى الأميركتين: ساحل غانا، حيث «باب اللاعودة»، الذي تغادره السفن محملة بالأفارقة في طريقهم الى العبودية، وصولاً إلى «الجذور الأفريقية» لمارلي وحفلاته في الغابون وجمهورية روديسيا (زيمبابوي)، فضلاً عن تقديره العالي لشخص إمبراطور أثيوبيا الراحل، هيلا سيلاسي. بعيداً من السيرة الذاتية المتداولة للمغني الذي كان في السادسة عشرة حين سجل أولى أغنياته على أسطوانة، ثمة انتقالات فكرية عميقة طبعت حياته، خصوصاً في السنوات الخمس الأخيرة منها، وذلك بعد تعرّضه لمحاولة اغتيال داخل وطنه عام 1976. فالتزم بعدها فكرة الدفاع عن السلام والحريات، وصارت جولته الغنائية «وان لوف وان بيس» (1978) بمثابة نداء شعوب العالم الثالث التوّاقة إلى الحرية والتخلص من السيطرة الأجنبية. وإرث مارلي، فكرياً وموسيقياً، لم ينضب حتى بعد وفاته. وبيعت من الأسطوانة التي ضمت مختارات من أعماله وصدرت عام 1984 بعنوان «ليجنيد» (أسطورة) نحو 25 مليون نسخة في العالم. وها هي موسيقاه تتردد في أجواء «الربيع العربي»، إذ أدرجها ماكدونالد في مشاهد من انتفاضتي مصر وتونس لشباب يتظاهرون. يقول المخرج: «بوب مارلي، الإنسان والمغني وصاحب الرسالة التي جعلته معروفاً على نطاق واسع، خصوصاً في البلدان النامية، يُعتبر صوتاً لنضالات مشتركة ولمسة حانية على قلوب مقهورة». وهو ما تنبّه إليه ماكدونالد حين كان يصور فيلمه «آخر ملوك اسكوتلندا» في أوغندا عام 2005، حين وجد صوراً لمارلي معلقة على جدران بيوت فقيرة في مدينة أوغندية كان يصور فيها مشاهد من فيلمه عن الديكتاتور عيدي أمين.