صدَق المغني والموسيقي الجامايكي بوب مارلي حين قال: «موسيقاي ستعيش إلى الأبد، ربما من الحماقة مني أن أقول ذلك، لكن عندما أعرف حقيقة عليّ أن أعترف بها». فحين ترى عشرات المراهقين والشباب يتوافدون إلى قاعة «ميوزيك هول» في بيروت، بشعورهم الطويلة المجدولة وقبعاتهم الملوّنة بالأصفر والأخضر والأسود، وهي ألوان العَلم الجامايكي التي لطالما اعتمرها مارلي خلال حفلاته في أنحاء العالم، تسأل ما سرّ هذا الفنان الذي ما زال يعجب ملايين المعجبين بموسيقاه وأغنياته في العالم بعد أكثر من 30 سنة على وفاته؟ وما سرّ أغنياته التي يحفظها الصغار والكبار عن ظهر قلب ويستوحون منها أغنيات جديدة؟ ما سرّ هذه الكلمات المغناة على إيقاع واحد التي باتت شعارات الثورات والتظاهرات والاحتجاجات في كل أنحاء العالم؟ وحين تراهم يقفزون فرحاً ويصرخون متأثرين، على إيقاع الريغي الذي مثّل بوب مارلي أيقونته من دون منازع، في بلد عربي صغير لم تصل إليه ريح التغيير والتمرّد بعد، تتأكد أن بوب مارلي كان على حق وتكتشف سرّ هذا الرجل الذي رحل عنا باكراً عن 36 سنة. فأغنياته ما زالت حية ليست لأنها جميلة وصادقة وحماسية ومرهفة ونابعة من أعماق الفنان الذي كتبها ولحّنها وأداها، بل لأنها تحمل في طياتها فلسفة إنسانية في حدّ ذاتها، ولأنها تحاكي المجتمع الذي ترعرع فيه بوب مارلي ومتطلباته وآلامه وأحلامه وأفراحه وأتراحه حين كانت بريطانيا تحتلّ أراضيه قبل أن يستقلّ في عام 1962. كما أن صاحب هذه الأغاني كان دوماً مناصراً لقضايا حقوق المرأة والإنسان والحب والتحرّر والسلام والاتحاد. وهي قضايا سامية لم يُدافع عنها على المنابر بكلام معسول تافه، بل كانت الموسيقى المبدعة التي لا تموت أبداً مع خشبة المسرح، وسيلته ليحتجّ ويُطالب بحقه وحق كل إنسان مظلوم وليتمرّد على الأنظمة المستبدة. وما أحوجنا لهذا الشاب الذي باعت فرقته «بوب مارلي أند ذي وايلرز» أكثر من 250 مليون ألبوم في العالم قبل وفاته، في العالم العربي اليوم كي يُردّد بصوت عال مقولاته الشهيرة: «لكل رجل الحق في تقرير مصيره»، و«أنا أؤمن بالحرية لكل إنسان وليس للسود فقط». علّ الفنانين العرب الذين ينأون بأنفسهم عن اتخاذ موقف لدعم شعبهم في التحرّر من الظلم والاستبداد، يتعلمون من تجربته ويغارون منه. إحياء للتراث الجامايكي كل هذه السمات جعلت عازف الباص آستون باريت، الوحيد الذي ما زال على قيد الحياة من فرقة «بوب مارلي أند ذي وايلرز»، إلى إعادة إحياء هذا الإرث الجامايكي مع موسيقيين شباب من خلال فرقة «ذي وايليرز». وتقوم هذه الفرقة الملتزمة بروح «الريغي المارلي» بكل حذافيرها، بجولة عالمية سمّتها «جولة الثورة»، التي حطّت رحالها في بيروت أول من أمس بدعوة من «ليبان جاز»، على مرمى حجر من نيران سورية الملبّدة أجواءها ببارود العسكر ودماء المدنيين، لتصرخ بأعلى صوتها «قفّ، انهض لحقوقك»... تعود بدايات هذه الفرقة إلى النصف الأول من ستينات القرن الماضي. اتخذت اسم «ذي وايلرز» بعد سنوات، وضمت ثلاثي الريغي التاريخي بوب مارلي وباني وايلر وبيتر توش، إضافة إلى آخرين، من بينهم عازف الباص آستون باريت (1946) الذي يقود الفرقة بشكلها الحالي. بعد سنوات على تأسيسها، غادرها وايلر وتوش، فتابع بوب مارلي مسيرته تحت اسم «بوب مارلي أند ذي وايلرز» حتى رحيله في عام 1981. أما زميلاه، فقد ذهبا كلٌ في طريقه، قبل أن يحاول وايلر لمّ شمل الفرقة، لكنه فشل في إقناع توش الذي قتِل بعد ذلك بقليل (1987). قنبلة من الحماسة بعد ميدلي من الريغي الكلاسيكي التقليدي، دخل المغني الجامايكي كولانت الوفيّ بصوته وأدائه وحسّه لروح أيقونة موسيقى الريغي، على المسرح الذي تحوّلت خلفيته إلى لوحة غرافيتي ملوّنة يتوسطها رسم لأيقونة الريغي، بأغنية «Natural Mystic». وسرعان ما تحوّلت قاعة «ميوزيك هول» إلى «قنبلة» موسيقية أو عاصفة هبّت على جمهور «ليبان جاز» مع أغاني مثل «soul rebel» و»Rastaman vibration» و»WHO THE CAP FIT» و»sense of freedom» ليملأوا المكان رقصاً وغناء وقفزاً في الهواء الملبّد بدخان السجائر على غير عادة. ما إن سمع الجمهور ذو الغالبية الشبابية (ما بين 18 و25 سنة) أوتار باص «القائد» آستون بيريت المتنكّر بنظارات سوداء وقبعة وألبسة فضفاضة، خلف زملائه، يعزف بهدوء نوتات «could you be loved» حتى علت الصرخات وراحت بعض الفتيات اللواتي اعتمرن قبعات ملوّنة بالأخضر والأصفر والأسود، بالبكاء. وشكّل المغنّيان كولنت براون وآنغلين محرّكين أساسيين لهذا الجمهور الحافظ عن ظهر قلب كل كلمات أغاني المتمرّد بوب مارلي التي غناها قبل أكثر من 30 و40 سنة. الثنائي الذي غنى ورقص على مدى أكثر من ساعتين وألهب المكان فرحاً وحماسة، كان يقود «الثوار» في القاعة، طالباً منهم رفع أذرعهم أحياناً والضرب على الأرض بأرجلهم أحياناً أخرى، هذا عدا عن ترك المايكروفون لهم ليُغنوا على إيقاع معلّمهم الأول بوب مارلي. الأمر الذي أذهل المشاهدين الذين شكلوا بدورهم جزءاً من الحفلة الاستثنائية مع فرقة «ذي ويليرز» التي أدت نوعاً صعباً من أنواع الموسيقى بكل حرفية وإتقان وفرح، محاكية بذلك روح بوب مارلي ورفاقه وروح الستينات الثورية. انسحب أعضاء الفرقة رغماً عنهم عن المسرح، لكن الجمهور أبى أن يرحل من دون مزيد من الأغنيات وإن كان يتصبب عرقاً، فما كان على «ذي وايلرز» إلا تلبية طلب «شركائهم» المشاهدين وعادوا ليغنوا «I shot the Sheriff» و «Is this love»، إضافة الى «No Women, No cry» التي «أهداها أنغلين الى نساء لبنان الجميلات وخصوصاً الموجودات في القاعة».