أحاط المتابعون للشأن القضائي السعودي، قضية منع القضاة في بلادهم من التعاطي مع وسائل الإعلام، بجدل واسع في الشبكات الاجتماعية، والمجالس العامة. واختلفوا كثيراً في تحليله وتفسيره. ومع أن مشاركات القضاة الإعلامية، قليلة إذا ما قورنت بمشاركات بقية الاختصاصيين في علوم الشريعة والدين، إلا أن التفاعل مع الحدث كان كبيراً، خصوصاً بعد ما أغلق قضاة حساباتهم على «التويتر»، وفهموا أن المنع يشمله أيضاً. غير أن البيئة الإلكترونية، يسهُل التحايل معها، فإلى عهد قريب ما كان أحد يكتب في الإنترنت باسمه الصريح في السعودية. وكان منع القضاة من الإعلام، جاء مستنداً إلى الأمر الصادر من خادم الحرمين الشريفين المبني على برقية ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية المشار فيها لاتجاه عدد غير قليل من القضاة للمشاركة في الشأن العام عبر منابر الإعلام المختلفة بصفتهم القضائية، إذ نص القرار على منع القضاة من المشاركات الإعلامية والتوقيع على البيانات. من جهته، أكد مجلس القضاء الأعلى «وجوب الالتزام بما قضت الأوامر من عدم مشاركة القضاة في وسائل الإعلام كافة؛ ضماناً لاستقلال القضاء وحياده، والبعد عما يسيء إلى الوظيفة القضائية التي يجب أن تكون في منتهى الحياد والتجرد والحذر من تسجيل المواقف والمرئيات المسبقة وهي من تنتهي إليها الخصومات للفصل فيها، والحرص التام من أن تشوبها شائبة من شأنها التأثير في متطلبات استقلالها وهيبتها في النفوس وثقة المتقاضين بحيادها التام، وواجبات رعاية شرف سمعتها، وقيمتها في نفوس الناس من دخولها في شؤون خارج اختصاصها». بعد انتشار القرار في شبكات التواصل الاجتماعي، أعلن القاضي، رئيس مركز الوسطية للبحوث الدكتور عيسى الغيث عن إغلاقه حساباته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي في تويتر وفيسبوك ويوتيوب، إذعاناً للأمر السامي بمنع القضاة من المشاركات الإعلامية. وكتب الغيث على صفحته الشخصية بموقع تويتر، قائلاً: «تغريدة الوداع: بناء على الأمر السامي بمنع القضاة من المشاركات الإعلامية، أعلن توقيف حسابي ب«تويتر» و«فيسبوك» و«يوتيوب». من جانبه، قال القاضي السابق، المحامي حالياً عبدالعزيز القاسم في حديث مع «الحياة»: «الأصل في القاضي أن يحكم ولا يبدي رأياً» ولفت إلى أن على القاضي الحياد في المسائل الفكرية والسياسية، ولكن من حق القضاة إبداء آرائهم في المسائل المهنية المتعلقة بالقضاء كأي جهة أخرى، باعتبارهم مرجعاً في مهنتهم. وحول حضور القضاة في الإعلام قبل القرار، أضاف «لست متابعاً بشكل دقيق لذلك». في حين تناقلت الشبكات تحليل من سمّى نفسه المراقب للشأن القضائي، رأى أن المنع مقتصر على المشاركات الإعلامية التي تجتمع فيها الشروط الآتية، «أن تكون بالصفة القضائية، وأن تكون في الشأن العام، وأن تكون عبر وسيلة إعلامية»، معتقداً أن أي تعبير للرأي لا يستجمع هذه الشرائط فهو باقٍ على أصل الإباحة مع ضرورة مراعاة ما جاء في الفقرة الثالثة. وأضاف: «يثور تساؤل حول المقصود بمصطلح الشأن العام الوارد في الأمر الكريم، وفي ضوء ما تضمنه الأمر الكريم من أن علة المنع هي صيانة استقلال القضاء وحماية القضاة من الامتهان وبالرجوع لما جرى العرف المحلي والدولي على منع القضاة من تناوله بصفتهم القضائية مما يمس مصالح عموم الناس ويعد الخوض فيه مساساً بالاستقلال وتعريضاً للامتهان، يمكن أن يقال إن المراد بهذه العبارة هي القضايا ذات الصبغة السياسية أو قضايا الخلافات الفكرية التي تتنازعها رؤى مختلفة داخل المجتمع والتي لا ينبغي للقاضي الخوض فيها بالوصف المذكور حفاظاً على حياده واستقلاله وهيبته». وتساءل هل يشمل المنع المشاركة في شبكات التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وتويتر ونحوها؟ ثم أجاب بقوله: «من الناحية القانونية هي لا تدخل في مشمول المنع ابتداء لأنها ليست وسيلة إعلامية بالمعنى المعروف لوسائل الإعلام بل هي أداة للتواصل الاجتماعي بين الأفراد يشارك فيها الأشخاص بصفتهم الشخصية، ولا شك أن مفهوم التواصل أوسع من مفهوم الإعلام. ولهذا فهي لا تخضع للقيود التي تخضع لها وسائل الإعلام التقليدية كالصحف والإذاعات والقنوات الفضائية من حيث إجراءات الترخيص والرسوم ونحوها، بل ولا تخضع لما تخضع له بعض وسائل الإعلام الجديد من قيود تضمنتها لائحة النشر الإلكتروني». تفاعلت الشبكات الاجتماعية مع هذا الأمر، فكتب مغردون كثر حول ذلك، من ذلك ما كتبه الدكتور مساعد المحيا قائلاً: «أتفهم منع القضاة من المشاركات الإعلامية التي ترتبط بسير عدالة ما.. لكن هل يشمل ذلك انقطاعهم عن نفع الناس وإفادتهم؟ وتوقع علي الفيفي أن تتبع قرارَ منع القضاة من المشاركة الإعلامية استثناءاتٌ لقضاة وسطيين ومعتدلين تماماً كقرار حصر الفتوى. ورأى المحامي سلطان بن زاحم في مشاركة إعلامية له أن «مشاركات القضاة متنوعة ومتدرجة، منها على سبيل التنوع مثل مشاركة القاضي عبر الندوات والدورات، ومشاركته في الإعلام المقروء كالصحف والتواصل الاجتماعي «فيسبوك» و«تويتر» أو المسموع، ومنها ما كان بصيغة تثقيفية كإجابات عن أسئلة أفراد المجتمع (...) أما التعميم فإن صيغته مطلقة، وهو ما أوجد نوعاً من اللبس لدى المنتسبين إلى الشأن القضائي، ومن هم على علاقة لصيقة بمنسوبي الجهاز كالمحامين مثلاً». معتبراً أن صيغة القرار لم يكن المقصود منها الحرمان أو الحظر الكلي من المشاركات لأن في ذلك حرماناً للمجتمع وإيجاد فجوة غير مستساغة وخطرة في بعض الأحيان بينهم وبين أصحاب الفضيلة القضاة، موضحاً أن المجتمع هو الذي سيفقد هذه الاستفادة من هذه الفئة النخبوية التي حباها الله سعة في الاطلاع والحكمة بما يتوافق مع العرف الاجتماعي ومآلات كثير من التصرفات. مطالباً أن يعقب هذا القرار توضيحٌ لمعالم دائرة السماح لأصحاب الفضيلة القضاة ومشاركتهم الإعلامية. وفي التفاعل مع القضية، رأى آخرون أن القاضي مطالب بالحياد، بحيث لا يتكلم بأفكاره ورؤاه لا في المجالس ولا في الإعلام، واستشهدوا بأن القضاة في أميركا وأوروبا يمنعون من الإعلام.