من الاختطاف الغامض للمستوطنين الثلاثة في الضفة الغربية وقتلهم، الى رمي الصواريخ على المستوطنات المحيطة بقطاع غزة وصولاً الى المجزرة المستمرة منذ اكثر من ثلاثة اسابيع ، ثمة غموض يحيط بالجولة الجديدة من حروب القطاع وأسئلة تثار في شأن التوقيت والظروف والتحالفات والآفاق. لكن السوءال الأساسي جوابه واضح. هل يعتقد احد ان الأوضاع في فلسطينالمحتلة كانت ستستمر الى ما لا نهاية بعد فشل كل محاولات التفاوض وتدخلات الرباعية الدولية ووساطة وزير الخارجية الأميركية جون كيري؟. الجواب هو ببساطة: لا. فقبل الحرب الجديدة على غزة قدم الرئيس الفلسطيني أقصى ما يمكن تقديمه من اجل انجاح التسوية التي تضمن السير على طريق حل الدولتين. واستمرت اسرائيل في المقابل في قضم الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات، وأبقت على كل مظاهر الاحتلال في ارض الضفة التي يفترض ان تصبح جزءاً من الدولة الفلسطينية الموعودة. وفي غزة التي تزعم إسرائيل انها انسحبت منها في 2005 لم يتغير شيء في واقع السيطرة والهيمنة، فالقطاع بقيَ تحت الحصار واستمرت اسرائيل في لعب دور المحتل في كل تفاصيله. منع القطاع من الاستفادة من مطاره المدمر ومن النفاذ الى البحر المحاصر وتحكمت اسرائيل بشبكة الكهرباء والمياه وبالمحروقات والأدوية والمواد الغذائية. حتى ان شبكة الهاتف التي تبدأ بالشارة الدولية 970، بقيت شارتها، لتستعملها في توجيه انذارات الإخلاء الى مواطني القطاع قبل تدمير بيوتهم على رؤوسهم. الى اين كانت ستقود هذه الوقائع سوى الى الحرب والصدام؟ هذا ما حصل ويحصل في معركة غير متكافئة يدفع ثمنها مئات المدنيين من ابناء القطاع، الا انها معركة قد تنضج ظروفاً مختلفة تقود الجميع وفي المقدمة منهم اسرائيل الى التفكير بضرورة البحث الجدي عن مخارج، ولا مخرج سوى الاستجابة لمطالب الشعب الفلسطيني ممثلاً بسلطته وحكومة الوحدة الوطنية التي قامت للمصادفة عشية المجزرة الجديدة. اضاعت اسرائيل وقتاً طويلاً منذ طرح مبادرة السلام قبل 12 عاماً في قمة جامعة الدول العربية في بيروت. تعاملت معها بخفة ورفض وفعلت ذلك مع كل المحاولات الأخرى، وفي الأثناء حاصرت الرئيس ياسر عرفات حتى وفاته، واتهمت بالتسبب بهذه الوفاة، وبدت مرتاحة جداً لقيام «إمارة غزة» المنفصلة عن سلطة رام الله، ثم سعت الى ما لا نهاية من اجل اضعاف الرئيس ابو مازن وحكومته وهاهي اليوم تنخرط في حرب تعرف ان لا امكانية فيها لتحقيق انتصار حاسم. وفي المقابل أضاعت الفصائل الفلسطينية وقتاً ثميناً في الصراعات الداخلية والرهانات الخارجية. وإذا كانت «فتح» القوة الأساسية في منظمة التحرير اتهمت بسوء الإدارة والفساد، فإن «حماس» اتهمت بالسعي الى شق الصف الفلسطيني عبر تنفيذها انقلاب غزة الشهير ومن ثم انخراطها في سياسة المحاور عبر انحيازها الى السياسة الإيرانية في المنطقة، قبل ان تؤدي تحولات الساحات العربية إلى فرز جديد سيضع «حماس» في مواجهة إيران و»حزب الله» في سورية، وفي مواجهة السلطة في مصر بعد انهيار نظام الإخوان المسلمين. يصح القول الآن إن حرب غزة الجديدة لن تكون فقط اختباراً للقدرة على القتال والصمود من جانب المقاومين في القطاع، ولا لقدرة التدمير والردع الإسرائيلية، بل ستكون اختباراً للوقائع السياسية الجديدة المحيطة بالمعركة في مختلف تفاصيلها. لاشك في أن إسرائيل أخذت في الاعتبار لدى إطلاقها الحرب التغيير الحاصل في علاقة «مقاومة القطاع» مع المحيط الأقرب والأبعد. في المعركة السابقة كانت «حماس» ومعها «الجهاد الإسلامي»، وهما القوتان الأساسيتان في غزة، تتمتعان بتحالفات واسعة توفر لهما دعماً لا محدوداً، فقد التقت مصر وإيران وسورية وتركياوقطر في لحظة ما على دعمهما لأسباب ايديولوجية دينية ومصلحية، بينها خصوصاً محاولة محاصرة الدور السعودي والخليجي في دعم السلطة الوطنية الفلسطينية ورؤيته لموقع المنطقة العربية في الصراعات الإقليمية الحامية. الآن يختلف الوضع الى حد كبير، فسلطة الإخوان في مصر انهارت، وباعدت المعركة في سورية بين ايران و»حماس»، وفي مواجهة المبادرة المصرية لوقف النار تحاول قطروتركيا لعب دور خطابي لا يمكنه التعويض عن جبهة احتضان واسعة لم تعد موجودة. لا يمكن قطر ان تحل محل التحالف الخليجي ولا يمكن تركيا الأردوغانية ان تلعب دور القاهرة وهي التي تشن حرباً شعواء على قيادتها. ويعرف الجميع ان أردوغان الطامح إلى الفوز برئاسة بلاده سيجعل من غزة مادة خطابية تخدمه في كسب جمهور اضافي على شاكلة تسجيله ثلاث اصابات في كرة القدم على ارض ملعب فارغ. تأخذ حكومة اسرائيل هذه الوقائع في الاعتبار ويمكن ان تضيف إليها التطرف الديني السائد في انحاء المشرق، خصوصاً اعلان دولة «داعش»، لتبرر توقيت حربها الجديدة ، ومقاوموها في غزة يدركون من دون شك صعوبة الشروط المحيطة. لكن، وفي العودة الى اساس المشكلة، لا أفق للحرب الإسرائيلية خارج العودة الى التفاوض على حل يستجيب مطالب الفلسطينيين، ولا أفق للمقاومة غير الصمود والعودة الى المشروع الفلسطيني الموحد من اجل فرض تحقيق هذه المطالب. * صحافي لبناني من أسرة «الحياة»