حالٌ من الإحباط تهيمن على معظم المثقفين العرب إزاء المشهد الثقافي العربي الراهن الذي أعقب فصل «الربيع»، ربيع الشعوب المنتفضة والثائرة منذ اكثر من عامين، والذي لم يُقدَّر له أن يكتمل وأن يؤتي ثمارَه المنتظَرة، بل إن «المفاجآت» غير السارة التي حملها هذا الربيع خيَّبت آمال هؤلاء المثقفين وكسرت الأحلام التي طالما خامرتهم. هل بالغ المثقفون العرب في حماستهم للثورات، التي شاركوا فيها آملين بأن يغيروا العالم العربي وينقذوه من الامراض التي تفتك به، وما أكثرها؟ هل أخطأوا في «حساباتهم» وظنوا أن رحيل رموز الفساد والظلم يعني حلول جوّ من الديمقراطية والحرية والعدل؟ هل تفاءلوا أكثر مما يلزم؟ لا أطرح مثل هذه الاسئلة لأجيب عنها. قد يكون الواقع العربي الراهن خير من يردّ عليها، ويكفي استرجاع بضعة أحداث غير قابلة للوصف «وقعت» أخيراً وأثارت من السخرية ما أثارت من استغراب وقلق. مَن كان يتوقّع -مثلاً- أن تبلغ «الحالة» المصرية ما بلغته أخيراً مع صعود التيارات المتطرفة التي عرفت كيف تجني ما زرعه أهل الثورة من شباب ومتنوّرين وعلمانيين...؟ بعد الاتهامات الظلامية الشعواء التي شملت مثقفين وظواهر وأعمالاً ابداعية، وعقب الدعوات الى المنع والمصادرة، انقضّت «طيور الظلام» على الممثل الشهير عادل إمام بمخالبها، متهمة إياه بما بات رائجاً من تهم لم يعد أحد يصدّقها، حتى الظلاميون أنفسهم. كافأ المتطرفون هذا الممثل، الذي تخطت نجوميته الجغرافيا العربية، في ذروة مساره الفني الطويل، باتهامه ب «ازدراء الأديان» في أفلام له ومسرحيات سابقة، ودعوا إلى محاكمته وسجنه ثلاثة أشهر... والخوف أنّ أمراً كهذا متوقَّعٌ في مصر اليوم. وبدا واضحاً أنّ هؤلاء المتطرفين كانوا ينتظرون هذه الفرصة السانحة لينتقموا من عادل إمام، الذي تمكن من فضحهم طوال أعوام ، والسخرية من مشروعهم الظلامي البعيد كل البعد عن الاسلام ورسالته. كان هذا الممثل من أجرأ الفنانين الذين أثاروا حفيظة المتطرفين، الذين يحلمون ب «إهدار» دمه. «الحالة» المصرية هذه لا تختلف عن «الحالات» الاخرى التي تتمثلها بلدان شهدت، وتشهد ثورات مماثلة... في تونس سعى المتطرفون الى السيطرة على الإعلام المرئي الذي لا تروقهم ديمقراطيته، وهدفهم أن يُخضِعوه لرؤيتهم المغلقة، وبعد اعتصام دام أشهراً تفرّق هؤلاء الطارئون على الساحة التونسية خائبين ولكن من دون أن يستسلموا. هؤلاء أنفسهم، الذين يعتبرون أنهم اليومَ قمينون بالبلاد والعباد، شنّوا حملة على اهل المسرح التونسي وهاجموا عدداً من الممثلين والمخرجين وأشبعوهم ضرباً. إنها مكافأة يحظى بها أيضاً أهل المسرح التونسي، الذي يُعَدّ اليوم من أهم المسارح العربية. أما ليبيا، فلم تنجُ من أعمال ظلامية، وقد يأتي الغد بما هو أشدّ فداحة، بحسب ما تنذر الأجواء المتلبّدة هناك. المشهد السوري يمثل ذروة المأساة، قتلا وخراباً ومنعاً ومصادرة... ووسط شلال الدم والغبار والبارود، ما برحت السلطة تخشى المثقفين وتطاردهم وتسجنهم وتعذبهم تحت ذريعة الخيانة العظمى، وآخر المفكرين الذين دخلوا السجن، المفكر العلماني التنويري سلامة كيلة، ومعروف ان السلطة في سورية لا يهمها تاريخ الشخص ولا عمره ولا حاله الصحية... وعلاوة على حملات القمع الرهيب، عمدت السلطة الى مطاردة فناني «الغرافيك» الذين جعلوا من جدران المدن السورية ألواحاً يرسمون عليها ويكتبون، محتجين ومعارضين ورافضين... أما في لبنان، الذي لم تصله «نار» الثورات العربية لأسباب غير مجهولة، والذي ما زال أهله منقسمين بعضهم على بعض، شعباً ودولة وحكومة، جماعات وأفراداً، طوائف ومذاهب واحزاباً... أما في لبنان هذا، فتشهد الرقابة أوج ازدهارها، وهي رقابة لا «تتمرجل» إلاّ على اهل الثقافة والفن، فتمنع وتصادر وتقاضي، غير مدركة ماذا تفعل، وأيَّ اخطاء فادحة ترتكب. قبل اسابيع طاردت الرقابة «الساهرة» على سلامة الوطن والمواطن، الفنان الشاب سمعان خوام، عقاباً له على «تشويهه» جدران بيروت النظيفة جداً، برسوم الغرافيتي الساخرة والناقدة بلطافة، وبعده لاحقت الفنانَيْن خضر سلامة وعلي فخري لكتابتهما شعارات ضدّ إطلاق العميل الاسرائيلي فايز كرم، الذي استُقبل استقبال الابطال حين خروجه من السجن المخفف لأسباب وطنية جداً... واخيراً عمدت الرقابة نفسها الى مقاضاة الفنانَيْن المسرحيين ادمون حداد وراوية الشاب لتقديمهما مسرحية كوميدية «تخلّ بالآداب العامة وتحض على الفجور»، بحسب التهمة التي باتت مستهلكة في لبنان. أما هذه المسرحية، فهي غاية في الطرافة، وعاد ريعها الى جمعية تعنى بالأطفال المرضى. هكذا كافأت السلطة اللبنانية هذين الممثلين المهددين بالسجن شهراً. الرقابة في لبنان لا تجرؤ الا على اهل الثقافة والفن، ظلماً وبهتاناً حتماً، اما التجّار الذين يعيثون خراباً ويوزعون المأكولات الفاسدة ويلتهمون رغيف الفقراء ويسطون على البنزين والمازوت و «يكسّرون» الجبال والروابي ويشوهون الطبيعة طمعاً بالأرباح الهائلة... أما هؤلاء، فلا تجرؤ الرقابة على فضحهم أو اتهامهم ولو ب «جنحة» صغيرة.