على عكس سبع سنوات مرت على حرب لبنان الثانية، لم تكن هذه المرة هناك حاجة ضرورية للتطرق المباشر لحرب تموز وللحديث عما تبقى في الذاكرة من مشاهد لتلك الحرب. ولم تكن حاجة أيضاً للحديث عن دوافع الحرب وتدحرجها والتردد في العملية البرية وصور الجنود الاسرائيليين، الذين دخلوا الى لبنان رافعين شارة النصر يبتسمون تحت عنوان «الجيش الذي لا يقهر»، وعودة بعضهم وقد نشرت الصحف صورهم يبكون على ما شاهدوه في المعارك. لم تكن هناك اية حاجة لأي جهد من هذا النوع. فعملية «الجرف الصامد» في غزة كانت بمعظم احداثها صورة مصغرة لتلك الحرب. في اليوم الثالث والعشرين من الجرف الصامد، بلغ عدد الجنود الاسرائيليين القتلى 56 وتجاوز عدد المصابين المئتين، وخضعت اسرائيل لواقع الزمها بالتحرك نحو المسار السلمي. وحتى في هذا الجانب وجدت بقرار مجلس الامن 1701، الذي انتهت بموجبه حرب تموز، النموذج الافضل لها لإنهاء حرب غزة. وقد استبق نتانياهو الوثيقة التي أعدت لعرضها على مجلس الامن باتصالات مع مسؤولين دوليين في محاولة لتشكيل آلية دولية تدفع باتجاه تجريد قطاع غزة من السلاح والاشراف على دخول وتهريب واستخدام الأموال ومواد البناء والوسائل القتالية. رأت اسرائيل بالقرار 1701، خطوة تضمن ما تسميه «الردع» تجاه «حماس»، كما تراه اليوم تجاه «حزب الله». فالقيادة الاسرائيلية على قناعة بأن عدم اقبال «حزب الله» على عمليات ضد اسرائيل طيلة سبع سنوات، نابع بالاساس من الردع الذي حققته حرب لبنان تجاه الحزب، على رغم ما يمتلك الحزب من ترسانة صاروخية وقدرات عسكرية، لا يخفي اي مسؤول اسرائيلي قلقه منها. على مدار ايام الحرب على غزة لم ينكر الاسرائيليون مواجهتهم المفاجآت على ارض المعركة، ليس فقط الترسانة الصاروخية التي تملكها «حماس» ووصلت الى «مجدو» وتل ابيب وحيفا، انما ايضاً القدرات القتالية لعناصر «حماس». اكثر من مسؤول امني وعسكري كرر ما سبق وقاله اسرائيليون بعد حرب لبنان الثانية، ان المواجهات داخل لبنان لم تكن امام تنظيم او مجموعات قتالية انما جيش دولة بكل ما تعنيه الحرب. واليوم في حرب غزة، وكما قال الرئيس السابق لشعبة الإستخبارات العسكرية الإسرائيلية شلومو غازيت، فانّ المواجهات التي تجري في غزة بين «حماس» والجيش الاسرائيلي تشير الى أنّ اسرائيل لا تواجه مجموعة «مخربين إرهابيين»، إنما دولة معادية. وفي مقارنته بين «حماس» و«حزب الله» يقول: «نجحت الحركة في غزة بتشكيل جيش كبير ومنظم جيداً، جيش لديه قيادة عامة تتمتع بسيطرة مركزية فاعلة وقيادة عسكرية، وفعلت ذلك بجهود تنظيمية ضخمة، بأفضل ما يمكن، وكل ذلك طبعاً في ظل الظروف الصعبة في قطاع غزة: قامت بتخزين وبناء مستودع هائل من الصواريخ ذات المديات المختلفة، والقادرة على الوصول إلى أي هدف في إسرائيل». وأثار حديث «غازيت» نقاشاً اسرائيلياً بخاصة لدى قوله: «علينا الفهم والاستيعاب بأنه يقف امامنا عدو يختلف عما عرفناه، وعلينا التعود على صورة الوضع الجديدة. فهذا ينطوي على أبعاد لا تتوقف على المجال العسكري، ويمكن أن تكون له ابعاد في المجال السياسي أيضاً». ولا يكاد يمر يوم الا وتخرج اسرائيل بتقارير مفصلة في المقارنة بين «تموز» و«الجرف الصامد» و«حماس» و«حزب الله»، في القنوات التلفزيونية والصحف ومواقع الانترنت. ومن وجهة نظر الإسرائيليين فإن «حماس» تعتمد في قتالها الحالي في غزة على طرق الحرب والوسائل التي بلورها «حزب الله» في لبنان بمساعدة الحرس الثوري الايراني. فقامت ببناء منظومة دفاعية متفرعة في غزة، تم تقسيمها الى ستة الوية، تنتشر من شمال القطاع وحتى جنوبه، وتتولى مسؤولية القطاعات التابعة لها. ويضم كل لواء اربع كتائب عسكرية تتمتع بقدرات مستقلة في مجالات عدة، كتركيب عبوات ناسفة واطلاق الصواريخ المضادة للدبابات، وتفعيل القناصة وقوات الأنفاق. وعلى غرار حزب الله، ايضاً، أسست حماس قدراتها الهجومية على بناء منظومة صاروخية لقصف الاراضي الإسرائيلية. ويسود التقدير الاسرائيلي بأن اكثر من عشرة آلاف صاروخ وجدت في قطاع غزة، قبل حرب «الجرف الصامد»، علماً ان صواريخ حزب الله اكثر تطوراً. فصواريخ غزة من النوع الذي يحمل رؤوساً متفجرة أخف مما تحمله صواريخ «حزب الله». كما ان غالبية الصواريخ طويلة المدى التي تمتلكها «حماس» هي من انتاج ذاتي، وتعتبر أقل دقة ونجاعة. وفي عمليات الاختطاف. اعتبر الطرفان عمليات الاختطاف اسلوباً مهماً في عملهما وانطلقا بتطبيقه لادراكهما مدى تأثير عمليات الاختطاف على الأجواء العامة في إسرائيل، وعلى قرارات الحكومة. وهو ما يدفع «حماس»، حتى الآن وخلال المعارك، الى بذل جهود مكثفة لاختطاف جنود، بعد شاؤول اورون، الذي تخمن اسرائيل انه قتل خلال تفجير المدرعة مع سبعة آخرين. ولكن، يرى الاسرائيليون ان «حزب الله» يستخدم الاختطاف كأوراق مساومة بحنكة اكثر من «حماس». فاختطاف الجندي غلعاد شليط عام 2006، يعتبر ابرز عملية قامت بها «حماس». ورغم انها اجبرت إسرائيل على دفع ثمن بالغ تمثل بالافراج عن 1027 أسيراً، الا انها ارتكبت في بداية المفاوضات خطأ كشف معلومات تفيد بأن شليط لا يزال حياً، بينما اشترط «حزب الله»، عدم الكشف عن اية تفاصيل عن الجندين المخطوفين، عند اشتعال حرب لبنان، الا لحظة تنفيذ الصفقة، حيث حصل الاسرائيليون على نعشين. وفي الجانب السياسي، وعلى رغم مساواة الاسرائيليين بين «حزب الله» و«حماس» في الكثير من الجوانب الا ان السياسة التي اتبعها «حزب الله» في السنوات الاخيرة، وتحديداً منذ ازمة سورية، غيرت من الوضع. ويرى الاسرائيليون ان «حزب الله» تصرف وفق تكتيك سياسي اثبت انه يتمتع بحنكة سياسية وبمسؤولية كبيرة كمنظمة ذات اهمية استراتيجية في المنطقة لا يمكن إيران التخلي عنها، كما تخلت، قبل الجرف الصامد عن غزة. ويرى الخبير في شؤون الشرق الاوسط، تسفي بارئيل، ان انضمام «حزب الله» الى الحرب في سورية الى جانب النظام، ساهم في فرض خطوات عسكرية. وسيطرته على السياسة اللبنانية شكلت حاجزاً امام تأثير دول عربية ومنح ايران مكانة رئيسية في هذا الجزء من الشرق الاوسط. وعلى رغم تصريحات الامين العام ل «حزب الله»، السيد حسن نصرالله بشأن اولوية القضية الفلسطينية والدعم الكلامي الذي منحه للمقاومة، الا ان قواته لم تشارك في الحرب من اجل الشعب الفلسطيني، واكتفت، في شكل عام، بتقديم المعونة العسكرية والتدريب. وكما يقول برئيل «فان حزب الله يعتبر نفسه تنظيماً لبنانياً يعمل من اجل مصالح لبنانية، ويبرر تدخله في سورية بالرغبة في الدفاع عن المصالح اللبنانية، وهذا يحتم على التنظيم المناورة بشكل حذر، من دون التخلي عن المصالح الايرانية والسورية. ويمكن حزب الله ان يسمح لنفسه بالدخول في مواجهة مع اسرائيل لفترة طويلة من دون ان يمس ذلك مكانته. اما طابع قتال «حماس» فيختلف. فالجمهور الفلسطيني متجانس وموحد في نضاله ضد الاحتلال الاسرائيلي». وفي أي مقارنة بين «حماس» و«حزب الله» يكون للكفاح المسلح وأبعاده مكانة بارزة. وفي هذا الجانب يظهر التشابه بين «حزب الله» و «حماس»، لكن هذا التشابه لا يعني ان اسرائيل يمكنها تحقيق ما جاء في نص وثيقتها التي تسعى الى الحصول، من خلالها، على قرار من مجلس الامن لوقف الحرب. فرغم الايديولوجية الدينية للحركة، فقد اعتبرت «حماس» شريكة شرعية في النضال القومي، ولم يؤثر الشرخ مع فتح على مكانتها. وطالما تواصل احتلال الارض الفلسطينية لن تستطيع «حماس» فصل نفسها عن الكفاح المسلح، او عن وقف الكفاح المسلح في فترات الهدنة. وهنا تشبه مكانتها مكانة «حزب الله»، اذ انها تستطيع تحدي السلطة الفلسطينية المركزية، ولكن خلافاً ل «حزب الله»، فإن «حماس» تواجه تحديات من قبل تنظيمات اخرى. ولذلك فان القياس على «حزب الله» يمكنه ان يضلل اولئك الذين قد ينجرون خلف مساعي الاسرائيليين الحالية الى فرض قرار دولي على شاكلة 1701، لأن دعوة الدول الاوروبية الى نزع سلاح «حماس»، على شاكلة نزع السلاح من الجنوب اللبناني، ليس فقط ستفشل كما فشلت في لبنان، بل سيكون تطبيقها ضرباً من الخيال، طالما ان اسرائيل دولة محتلة لغزة وتحاصرها براً وبحراً وجواً. ما يحصل اليوم على ارض المعركة في غزة ووضعية «حماس» وقدرة صمودها امام من يصر على تسمية نفسه «اقوى الجيوش» والعمليات النوعية التي أظهرت قدرات مقاتليها، بخاصة عملية نفق «ناحل عوز» التي وصل فيها عناصر الحركة الى اقرب نقطة من الجنود داخل اسرائيل وتمكنوا من تصوير عمليتهم وقتل الجنود الاسرائيليين ثم عودتهم الى غزة، كل هذا أعطى منحى آخر للنقاش الاسرائيلي، ما كان احد يتوقعه. والرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية ليس الوحيد الذي رأى هذه الحقيقة وواجه تصريحات قيادة الجيش التي ادعت فيه ان حماس سرعان ما ضعفت في الحرب وباتت تنظيماً غير قادر على مواجهة الجيش. فالكثيرون اشاروا الى ان اسرائيل ستنهي هذه الحرب من دون ان تشاهد علماً ابيض يرفع من قبل حماس، وانها على العكس ستسرع التوجه نحو حل سلمي ينقذها من الغرق في وحل غزة. المؤرخ العسكري اوري ميلشتاين قال صراحة ان حماس انتصرت على الجيش الإسرائيلي في ما سماه «حرب العقول». وحسب ميلشتاين فان «حماس»، لم تعد تتصرف كتنظيم ارهابي وانما كتنظيم عصابات يتطور، وتؤدي مهماتها بشكل يفوق سلوكياتها قبل عشر سنوات. وينبع تطور قدراتها عن تعقب نقاط ضعف جيوش الغرب وجيش اسرائيل في شكل خاص. وفي المقابل فإن المفاهيم الإسرائيلية لا تزال روتينية وثابتة. وقال ان الشعور السائد في الجيش والقيادة الإسرائيلية هو ان اسرائيل تملك جيشاً قوياً، بل الأقوى في الشرق الاوسط، وأحد الجيوش الجدية في العالم، ويمكنه إبادة التنظيمات الارهابية متى شاء. لكن الحقيقة هي ليست كذلك والجيش لا يستطيع تدمير هذه التنظيمات». غير ان ميلشتاين عاد واستدرك قائلاً: «الجيش الإسرائيلي هو جيش قوي لكن ذلك يكون عندما يواجه جيشاً منظماً، لأنه يمكن الجيش المنظم ان يواجه جيشاً مثله، وليس محاربة العصابات والارهاب. وأضاف: «الشعور الذي ساد في الجيش قبل «الجرف الصامد» هو ان سلاح الجو قوي ويملك قدرات ضخمة في مواجهة أي جهة، لكن «حماس» عرفت كيف تفاجئ في الحرب الجوفية التي خططت لها مسبقاً، هذه الحرب التي لا يتم التعبير عنها من خلال الأنفاق فقط وانما بآبار القصف الجوفية، ايضاً، وفي مقرات القيادة الجوفية والحرب الجوفية التي استعدت لها. وقد نجحت حماس بمفاجأة الجيش في هذه الاستعدادات». بالنسبة ل «حماس» فإن نقطة تفوقها تكمن في الانفاق. ويضيف ان الواقع الحالي هو ان الجيش ليس مدرباً على حرب العصابات، بينما تأهل رئيس الحكومة ووزير الدفاع والقائد العام لطرق الحرب النظامية. وقال ان إسرائيل طورت منظومة تفكير عسكرية جديدة، ويمكنها انشاء قوة عسكرية مختصة بحرب العصابات كما فعل الجيش الروسي عندما قرر نسخ نمط المدارس الدينية اليهودية الى المدارس العسكرية. وتبقى المقارنة الاهم بالنسبة للاسرائيليين هي: هل ستؤدي «الجرف الصامد» الى دحر حكومة نتانياهو، كما فعلت حرب لبنان الثانية بحكومة ايهود اولمرت؟ من الصعب اليوم الاجابة عن هذا السؤال. فما زالت الغالبية العظمى من الاسرائيليين (85 في المئة) تدعم سياسة نتانياهو تجاه غزة وتطالب باستمرار العملية البرية، ومواصلة ضرب «حماس» بحل حاسم وليس بالتعادل، ولا حتى الانتصار بالنقاط. ويرى الاسرائيليون انه بعد وصول عدد القتلى الى 56 جندياً، وشل مطار بن غوريون جزئياً، وسقوط آلاف الصواريخ، وانهيار السياحة، لا يعتبر وقف الحرب الآن، خياراً مقبولاً. رغم ان التردد يزداد داخل المجلس الوزاري الأمني المصغر، ومما يتم تسريبه فان نتانياهو اكثر من يدعم التوجه، ولو في الاجتماعات المغلقة، نحو حل ديبلوماسي، ينقذه من اية ورطة جديدة. لقد اعترف نتانياهو بعد التوغل البري في غزة بأن حماس سعت لجر إسرائيل الى الداخل وانه امر بالتوغل البري لعدم توافر أي خيار آخر، ولكن اذا قرر المجلس الوزاري المصغر توسيع العملية، والتي تعتبر نوعاً من الحرب، فسيكون ذلك خلافاً لرغبة نتانياهو.