من المحتمل أن المتظاهرين في مختلف المدن والبلدات السورية الذين ضغطوا، في النصف الأول من عام الثورة، على قوى المعارضة السورية لتشكيل إطار موحد يضمها، كان يراودهم الأمل في تدخل دولي ما على غرار النموذج الليبي، يختصر مسيرتهم الشاقة نحو الحرية، ويوفر بعض دمهم. كان أبرز تجليات هذين الضغط والأمل في ذلك المؤتمر الصحافي الذي عقده، في الصيف الماضي في أنقرة، الناشط الشاب ضياء الدين دغمش وأعلن فيه عن تشكيلة ل «مجلس وطني سوري» مفترض برئاسة برهان غليون وعدد من الشخصيات السياسية المعارضة، من غير استشارة أي منهم. فقد شكلت تلك الخطوة المرتجلة ذروة ضغط الشارع على قوى المعارضة لتوحيد صفوفها، وأشارت إلى شكل الإطار السياسي المناسب واسمه ورئيسه معاً. كان اختيار الاكاديمي برهان غليون للرئاسة موفقاً لجهة أنه لم ينخرط في السياسة سابقاً فلم يكن طرفاً في التجاذبات المعتادة داخل البيئة المعارضة، ويمكنه أن يحظى بإجماع يصعب توافره لغيره من شخصيات المعارضة. وعبَّرَ اسم «المجلس الوطني السوري» عن الحاجة إلى بديل ناجز يمكنه أن يقود البلاد في المرحلة الانتقالية، كما عن اقتداء بالمجلس الوطني الانتقالي في ليبيا الذي نجح في استدراج تدخل عسكري دولي، ما كان للثورة أن تنتصر لولاه. لم تحظ تلك المبادرة بالنجاح، وتنصل معظم الواردة أسماؤهم في قائمة دغمش من الاستجابة لها، بدعوى أنه لم يستشرهم أحد في إدراج أسمائهم. لكنها شكَّلَت خَضَّة قوية في وسط المعارضة السورية مهَّدَت لتكثيف اللقاءات والمشاورات بين أطرافها، وصولاً إلى إعلان قيام المجلس الوطني السوري، في مطلع تشرين الأول الماضي، برئاسة برهان غليون. غير أن ما نجح في ليبيا لم ينجح في سورية. على رغم حمام الدم الذي واظب نظام الأسد على اقترافه في طول البلاد وعرضها، تبين أن ما يسمى المجتمع الدولي غير متحمس لأي تدخل عسكري على غرار ما حدث في العراق أو ليبيا. في المقابل بلغ التدخل الروسي والإيراني لمصلحة النظام مستوىً غير مسبوق في أي مكان آخر. كشف هذا الوضع عن زيف الخلاف الصاخب بين قوى المعارضة السورية من أنصار التدخل وخصومه. هذا الخلاف المصطنع بين تيار يرحب بالتدخل ويعمل ما في وسعه على توفير أسبابه، وتيار بنى هويته الأيديولوجية وسبب وجوده على رفض التدخل الخارجي، لم ينفع غير النظام الآيل للسقوط، فمد بعمره وأطال زمن المأساة السورية. من الآثار التي ترتبت على غياب التدخل الدولي لوقف مجازر النظام، أن المجلس الوطني السوري الذي اعترفت به بعض الدول «ممثلاً شرعياً» للشعب السوري، ظهر في مظهر الهزيل العاجز الذي تمزقه، فوق ذلك، تجاذباته الداخلية، وتطعن في احتكار تمثيليته تجاذبات خارجية مع قوى معارضة أخرى. في المقابل، بدت هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديموقراطي في مظهر «الخائن» لتطلعات الشعب الثائر، وكتلة من عجائز المعارضة ممن أمضوا قسماً من أعمارهم في سجون النظام، وانتهوا إلى إصلاحيين يدعون إلى الحوار معه في زمن الثورة، ويحجون إلى موسكو أفواجاً في الوقت الذي يرفعون فيه عقيرتهم ضد أي تدخل خارجي مفترض. غير أن الأثر الأكثر شؤماً الذي تركته لا مبالاة القوى الدولية الفاعلة أمام المأساة السورية، هو شعور بالمرارة يؤسس لنوع من الانكفاء على الذات ورفض العالم ومخاصمته، في عصر سمته الأساس هي الانفتاح والعولمة. شاهدنا نموذجاً مشابهاً في التاريخ القريب لهذه المنطقة، هو نموذج العراق الذي طوَّرَ نوعاً من الخصومة مع العالم العربي بسبب عدم اكتراثه لمآسي العراقيين على يد نظام صدام حسين. فقد مرت مجازر الأنفال وحلبجة واستخدام السلاح الكيماوي ضد الكرد في الشمال والشيعة في الجنوب، بصمت عربي قاتل ومتواطئ... مما أسس لنوع من العداء للعروبة في العراق، لم تزل آثاره إلى اليوم. ويعبر شعار «مالنا غيرك يا الله» الذي يهتف به السوريون في تظاهراتهم عن نزعة مشابهة من مخاصمة العالم والانكفاء على الذات، تنطوي على مخاطر انعزالية في سورية ما بعد الأسد. ومنذ الآن يتحدث سوريون عن «مؤامرة» مضادة لسردية النظام التقليدية عن المؤامرة الكونية المفترضة ضده. المؤامرة الجديدة التي يتحدث عنها الشعب ومعارضون شعبويون تنطلق من تل أبيب فواشنطن فموسكو لتضم معظم عواصم العالم المتواطئة في رأيهم مع النظام ضد الشعب. نزعة الانغلاق على الذات التي طالما مثّلها تيار الممانعة المتداعي، من المحتمل أن تنبعث بصورة مفارقة من خلال خصومه الثوريين بالذات، في مرحلة ما بعد الأسد. وهذا مما لا يسر أحداً. * كاتب سوري