حوادث الانتحار التي بدأنا نسمع ابتداءً بشاب عرعر ومروراً بشاب القصيم، ونتمنى أن تنتهي بشاب الرياض، تستدعي من المجتمع بأسره ومؤسساته الحكومية والمدنية أن يبحث عن أسباب هذه القضية الشرعية والمجتمعية وأن يسارع في حلها. ومن خلال قراءة للنصوص الشرعية والحياة المجتمعية يقف الباحث على أسباب لهذه المشكلة، لعل من أبرزها ما ذكره الله في القرآن في قوله: «يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا»، فالنهي عن قتل النفس جاء مسبوقاً بالنهي عن أكل الأموال بالباطل للتنبيه والتنويه على أن المجتمعات التي ينتشر فيها أكل المال بالباطل تتسبب في خلق جريمة إزهاق الروح، ولا يعني هذا التبرير لهذه الجريمة، لكن ما يدور في المجتمعات من الظلم قد يقود ضعيف الإيمان الذي لا يستطيع أن يرفع الظلم أو يدفعه إلى التخلص من هذه الحياة التي أشقته، ولذا جاء الخطاب القرآني الذي يحمّل الفرد مسؤولية نفسه «ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً»، فحياتك ليست لك، إنما هي لله في ثقافة المؤمن «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين»، فهو الذي أذن بابتدائها وهو المقدر لانتهائها، واستعجال النهاية قبل حلولها تمرد على قضاء الله. وأشارت الآية إلى سبب من أسباب إزهاق الأرواح بعد أن هددت من تراوده هذه الفكرة الشيطانية، بالقول «...إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً»، فأكدت أن انتشار الكبائر في المجتمعات من أسباب ضعف الإيمان الذي يضعف قوة صاحبه ومجابهته لشدائد الحياة، ولن تدفع هذه الجريمة بمثل محاربة الكبائر في أنفسنا أولاً ثم مجتمعتنا، ولا يمكن لأي قارئ لهذه الآية إلا أن يقف على هذين السببين في أقوال المفسرين وفي السياق القرآني البديع. وقد يقول قائل: لكن التصريحات أكدت أن هذه الحالات كانت من مرضى نفسيين، وهذا شيء بدهي لا يحتاج إلى تصريحات، فمن يقتل نفسه في الشرق والغرب ليس شخصاً سوياً، بل في الغالب مريض نفسي، لكن ما أسباب المرض النفسي الذي قاده لهذه النهاية؟ أليس منها الشعور بالظلم ومشكلات البطالة والفقر والظروف العصيبة التي يواجهها الشباب المقبل على الحياة في عالم ارتفاع الأسعار مع قلة الفرص المتاحة لديه، فكانت هذه المقدمات وأمثالها أسباباً للولوج في مشكلات الإحباط واليأس والاكتئاب، مع ضعف المراكز والمستشفيات النفسية المتخصصة لعلاج هذه الحالات ليعيش أصحابها حياتهم الطبيعية لا أن يهملوا حتى يزهقوا أنفسهم. إن على الشاب اليوم أن يعلم أن قضية الانتحار، قضية شرعية حسمتها نصوص الكتاب والسنة، في الحديث المتفق عليه : «عَبْدِى بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ «، وفي لفظ: «مَنَ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِى يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة. وليس في هذا حكم على الأفراد الذين فعلوا ذلك، لأن علمهم عند الله تعالى، وفي صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لمن قَطَعَ بَرَاجِمَهُ بمَشَاقِص فَشَخَبَتْ يَدَاهُ فَمَاتَ.. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- « اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ». وعليهم أن يقوُّوا الإيمان في قلوبهم الذي به تقوى أنفسهم لمواجهة مصاعب الحياة وشدائدها، وكثير من المبدعين لم يولدوا وملاعق الذهب في أفواههم، إنما ولدوا في بيئة صعبة حفزتهم للتحدي وقادتهم للنجاح، وقد ألقى ستيف جوبز في حفلة تخريج بهيج، كيف نام على البلاط، ومشى أميالاً لكي يحصل على وجبة مجانية، كيف عانى في الحصول على عائلة تتبناه، كيف طُرد - ببساطة - من شركته التي أنشأها، كيف أحسَّ حين اكتشف السرطان في بطنه وأمعائه...كيف قال: «عش يومك هذا وكأنه اليوم الأخير في حياتك، ستكون صائباً يوماً ما»! حفظ الله حياة شبابنا وحياة مجتمعاتنا وأبعد عنا أكل الحرام وكبائر الذنوب. * داعية، وأكاديمية سعودية. [email protected]