دعا فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (المشرف العام على مؤسسة "الإسلام اليوم") حكومات العالم الإسلامي إلى ضرورة المعالجة الفورية لظواهر الظلم والتجاهل، ومشكلات البطالة والفقر، والاندماج في مشاريع تنموية جادة، ومحاربة الطبقية والفساد المالي والإداري والاستئثار بالثروة؛ حفاظًا على سكينة المجتمعات وأمنها، وقيامًا بما أوْجَب الله من العدل بين الناس، يقول تعالى {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}. وقال الشيخ سلمان- في مقالٍ له نشره موقع "الإسلام اليوم" بالتزامن مع صحيفة عكاظ السعودية والوطن القطرية والبلاد البحرينية تحت عنوان "انتحارٌ جماعيّ": إنَّه مما يُدرَكُ بالملاحظة والتجربة وقراءة السُّنن أنّ الفقر مدعاةٌ لكل شر، وقد كان عليٌّ- رضي الله عنه- يقول: "لو كان الفقرُ رجلاً لقتلته"، وفي الأثر: "كاد الفقرُ أن يكون كفرًا"، لافتًا إلى أنّ الأمر ليس مقصورًا على الخبز والطعام- على الرغم من أهميته العُظمى وضرورته-، بل يتعدّى إلى حاجة الناس للاعتراف بهم واحترام شخصياتهم, وحفظ حقوقهم ومصالحهم، وتمكينهم من التعبير عن مشاعرهم وتطلعاتهم المشروعة, دون تعسُّف أو إهدار أو استخفاف ما دامت لا تتجاوز ولا تتعدى إلى ظلم أو بَغْي أو عدوان على الآخرين. قتل النفس!! وقال الدكتور العودة: لقد ورد إليّ سؤالٌ, عن رأي الشريعة في قتل النفس تحت ضغط الفاقة والفقر؟ والجواب، أنّ هذا مما لا سؤال فيه عن "رأي"، بل هو حُكم الله وحُكم رسوله- صلى الله عليه وسلم-، مشيرًا إلى أنّ المُجمع عليه خلفًا وسلفًا، أنّ قتل النفس محرمٌ وكبيرةٌ من كبائر الذنوب؛ توعد الله عليها بقوله سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً}، وفي الحديث المتفق عليه: « عَبْدِي بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»، وفي لفظ: «مَنَ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِى يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِى بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا». رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة. وأضاف فضيلته: أنَّ الظروف العصيبة التي يعيشها الكثير في العالم الإسلامي تفسّر ما يحدث ولكنها لا تبرره ولا تجيزه، على أننا يجب أن ننأى عن الحكم على الأعيان والأفراد؛ فإنّ هذا مما استأثر الله به، وقد دعا النبي- صلى الله عليه وسلم- لمن قَطَعَ بَرَاجِمَهُ بمَشَاقِص فَشَخَبَتْ يَدَاهُ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ» رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه، مشيرًا إلى أنّ الحديث، وإن تكلّم فيه بعضُ أهل العلم؛ إلا أنه يقرِّر مسألةً واضحةً متفقًا عليها, وهي أنّ المنتحرَ لا يكفر بمجرد الفعل بل هو من عصاة المؤمنين. جمهورية المهمَّشين! ونبّه الشيخ سلمان: إلى أنّ تكرار هذه الظاهرة الغريبة من إحراق النفس في العديد من البلاد الإسلامية؛ هو نذير يدُلُّ على ما آلت إليه الأمور من اليأس والإحباط وانسداد الآفاق الحياتية التي تُعزِّز الأمل والتفاؤل، وكما قيل: أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ فلقد شُغلت كثيرٌ من الشعوب عن قضاياها الأممية الكبرى وتطلعاتها الحضارية بمشكلاتها الخاصة المتعلقة بلقمة العيش، ثم اكتشفت أنّه حتى لقمة العيش لم يعُد الحصولُ عليها بالأمر السهل, حتى يبذُلَ الإنسانُ كرامته. ومع هذا تضافرت أسبابٌ عديدة إعلامية وتعليمية واجتماعية على إضعاف قيمة الإيمان والصبر, ومواجهة التحديات بثقة وإصرار ومواصلة. كما أضعفت روح التكافل والتعاون في المجتمعات الإسلامية؛ بما أفضى إلى أوضاع مأساوية لا يعلم عواقبها إلا الله وحده؛ قد تعصف بالاجتماع والأمن والاستقرار في أيِّ بلد. وتابع فضيلته: أنّه في ظلِّ الانفتاح الإعلامي، وقيام "جمهورية المُهمّشين!" التي تسمح بالتعبير والاحتجاج عبر أدوات الإعلام الجديد والشبكات الاجتماعية، والقنوات الفضائية، التي صارت تغطي الحدث فورًا وتسمح بالتواصل والتنسيق والتنظيم، وتستوعب مئات الملايين من الناس. وعلى سبيل المثال، فإنَّ الفيس بوك يضمّ "647.5 " مليونًا من البشر غالبُهم من الشباب، موضحًا أنَّ هذا العدد الهائل من البشر لو كان دولةً لكان ثالث دولة في العالم من حيث عدد السكان بعد الصين والهند. انتحارٌ سياسيّ وأشار الدكتور العودة: إلى أنه في ظل "ثورة الآمال والتطلعات" التي تجعل من حق أيِّ شعبٍ أن يقارن نفسه بالشعوب الأخرى، ويرى نفسه جديرًا بالمستوى ذاته الذي تعيشه من حيث الحريات والرفاه الماديّ والممارسة السياسية؛ بل والمركز الحضاري، فإنّ التجاهل لهذه المتغيرات يغدو نوعًا من الانتحار السياسي لأيِّ نظام لا يريد أن يستوعبها، فهو يدمِّر ذاته بذاته, ويحكٌم على مستقبله بمفاجآتٍ غيرِ محسوبة, قد تُفضي إلى حروب أهلية في أسوأ الحالات، وإلى تغيُّراتٍ جوهريةٍ في أحسن الحالات. مشيرًا إلى أنّه إذا كان انتحارُ الفرد حرامًا وجريمةً نكراء، كما صرّح بذلك كتابُ الله العزيز وسنة النبي- صلى الله عليه وسلم-، فإنّ انتحارَ المجتمعات والدول لهو أشدُّ حرمةً وأعظمُ جُرمًا، وأولى بالشجب والاستنكار. وأوضح فضيلته: أنّ التعبيرَ عن الغضب أو عن المطالبة يمكن أن يتذرّع بالوسائل الشرعية والوسائل المباحة المسكوت عنها في الشريعة؛ لكن لا يجوز بحال من الأحوال أن يتساهل في ارتكاب ما حرم الله، لأنّ ما عند الله لا ينال بمعصيته. والحلُّ الحقيقي لكل مشكلات الأمة هو في كلمةُ "التوبة"، بما يشمل توبة الأفراد والمؤسسات والحكومات والشعوب من ذنوب السلوك، وآثار التخلف، ومعاصي الجهل، وأوزار الظُّلم، وخطايا الفوضى، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً}، فنحن لسنا نتحدث عن صيغة مثالية؛ بل عن الحدّ الأدنى الذي تُحفظ به مصالحُ الدنيا وضروراتُ الدين، وتهدأ به النفوسُ الثائرةُ، ويُفتح فيه بابُ الأمل للناس؛ كل الناس، فلا شيء يدمر الحياة كما يدمرها اليأس.