التباين مع الآخرين جميل والتباين مع النفس أجمل. في الآونة الأخيرة تناولت وسائل الإعلام ما نُسب إلى مسؤول في الدولة قوله «إن عمل المواطنة السعودية خادمة منزل أمر مشروع في حالة ما تكون الحاجة داعية له»، وما قاله ليس فيه ما يُحاسب ويواجه بنقد وردود أفعال بعضها خلا من منطق الحجة وجنح بعضها عن فهم المضمون. كما أن الكثير منها كان فيه تحامل وانفعال عاطفي، وأصبح ما نقل عن المسؤول فسحة تناولها البعض بما عُرف اليوم بالتغريدات على ساحة مواقع مختلفة ومصدر جدال في مجالس تشريعية ومادة دسمة على صفحات الصحف المحلية، بينما الأمر لا يُعدو كونه وجهة نظر من موقع المسؤولية عكس بُعد نظر وأُفقاً أوسع لواقع الحاضر وما يحمله المستقبل من مستجدات ومتطلبات الحياة وأعبائها المتزايدة. الأمم المتحضرة دائماً لديها توجه في رسم معالم المستقبل بشجاعة وشفافية، وبين الحين والحين يظهر فيها أشخاص وجهة نظرهم أوسع، فتجدهم أكثر تطلعاً لرسم مجتمع يكون عنده استعداد لمواجهة تحديات المستقبل وما ستواجهه الأجيال القادمة. تلك الأمم تسود وتتغلب فيها حرية الرأي الموجه، وتتبنى مناقشة أي تباين في الآراء بمفهوم المشاركة في المفاهيم والأفكار والاهتمامات، وصولاً إلى فهم الأطروحة (الفكرة الجديدة) بشيء من الموضوعية والتمعّن فيها بالتحليل والحلول بعيداً عن السطحية والمعالجات الخاطئة، وإعطائها أرضية واسعة للوقوف على بعد هدفها ونتائج محصلها النهائي. كما أن الفرد في تلك الأمم يكون عنده تباين مع نفسه في ما يجب عليه قبوله وما يجب عليه رفضه، بالأخذ بما يمليه الواقع سواء المعاصر أو المستقبلي وما يتباين فيه الآخرون. الإنسان هنا يعتبر المصدر والجانب المهم في تقرير ضرورة التعامل مع متطلبات سبل الحياة والتعايش بمرونة وتفهم معها. فكرة عمل المرأة السعودية في المنزل مربية أطفال والقيام برعاية مسنين تعرضت إلى كثير من التغريدات والأصوات بعض من أدلى بدلوه في تداولها عاب عليها وأنكر حتمية أن تحصل في المجتمع السعودي، وها هو التاريخ يعيد نفسه مرة ثانية إلى بداية الستينات في القرن الماضي، إذ كان تعليم الفتاة مقصوراً على كتاتيب منزلية وفي نطاق ضيّق. ولكن من خلال نظرة واسعة للمستقبل بدأت فكرة فتح مدارس حكومية للبنات وقامت في حينها الدنيا وقعدت، وظهرت على السطح أصوات وأقلام تعارض وتستنكر فكرة الشروع في فتح مجال تعليم الفتاة ولكن الدولة خطت قدماً في فتح مدرسة واحدة في كل مدينة من مدن المملكة، وقال المغفور له الملك فيصل وكان ولياً للعهد كلمته التي سجلها التاريخ له «ستعمل الدولة على تشجيع تعليم الفتاة ودعمه، وليس في ذلك إلزام، والأمر سوف يترك للرغبة والقبول»، ومن مواقفه - يرحمه الله - وصولاً إلى تحقيق ذلك الهدف (تعليم الفتاة) كانت في إحدى مناطق المملكة مدرسة أوشك العام الدراسي على الانتهاء ولم تلتحق طالبة واحدة بالمدرسة كرد فعل من أولياء أمورهن على رفض تعليمهن، عندها قرر الملك فيصل تقديم مبلغ 30 ريالاً مكافأة نقدية لمن تلتحق بتلك المدرسة وما هي إلا أيام قليلة حتى كانت أعداد الملتحقات أكثر من استيعاب المدرسة. حقيقة لقد أقبلت الفتاة على التعليم تدفعها الرغبة في الحصول على المعرفة والخروج من كابوس الجهل والأمية، بعد ذلك توسعت الرغبة مع الفتاة وتطلعت إلى مزيد من المعرفة في سبيل تحسين مستواها المعيشي ومساعدة أسرتها، وبذلك أقبل ولي أمرها على تعليمها وحرص عليه، عندها تضاعف عدد المدارس حتى أصبحت بالمئات. وتطور تعليم الفتاة حتى وصل إلى دراسات وتخصصات عليا. أين تلك الأصوات التي عارضت ووقفت ضد تعليم الفتاة؟ وإن كان لها حضور الآن فليكن تباينها مع نفسها أضعف من قبول وجهات نظر الآخرين، وكما هو معروف «اختلاف الرأي لا يفسد القضية إذا كان التباين فيه يناقش بموضوعية ويغلب عليه المنطق والحجة». أما من قال إن الدولة غنية والموارد كثيرة وليس من المعقول التفكير في بسط فكرة عمل المرأة في المنزل. لا بد من القول إن «دوام الحال محال» وجبال الكُحل تفنيها المراود (جمع مرود يستعمل في كحل العينين)، صحيح أن المجتمع في الوقت الحاضر غني ولكن هناك رقعة جغرافية واسعة ونمو سكاني يتزايد يوماً بعد يوم وأعباء ومطالب حياة قد تصبح أكثر صعوبة في المستقبل. إذاً لا بد من طرح أفكار افتراضية تناقش بإحساس ومسؤولية ويتعامل معها المواطن في المجتمع بإدراك وتفهم من دون حساسية. في كل مجتمع في العالم يوجد أغنياء ويوجد فقراء، ومجتمعنا أيضاً فيه غني وفيه فقير على تأكيد ذلك. حال تلك الأسرة التي تناولتها قبل أيام قليلة صحيفة «الحياة» على صفحتها «هموم الناس» قضية أسرة فقيرة في إحدى مناطق المملكة مكونة من ستة أفراد وأب عاجز مهددة بإخلاء المنزل الخيري الذي تقيم فيه، إن نشر هذه القضية لفتة من جانب «الحياة» كما تعودت في بسط مشكلات المجتمع بوضوح وبموضوعية بحثاً عن حلول ومعالجة لها، وفي هذا يكمن دور الصحافة وتأثيره في تطور المجتمع. عمل المرأة في أي مجال شريف ليس عيباً وعاراً، فهي شريفة طاهرة لا يحميها إلا شرفها، فماذا يضير لو أنها عملت مربية أطفال والقيام برعاية المسنين لتقديم ما يحتاجونه من اهتمام في حالة ما يكون لذلك طلب؟ أليس هو أفضل وآمن من أن تقوم بذلك مربية أجنبية؟ إن أي عمل شريف في سبيل حياة مطمئنة إنما هو أمان وحماية، وأفضل بكثير من الاتكال. وكفاية مزايدات والبقاء للأصلح. [email protected]ا