«قضى عليه والده»، يقول مروان وهو يشير بيده إلى طفل في الحادية عشرة، يؤكد معلموه وأصدقاؤه وبعض أفراد أسرته تميز ذكائه وتفوقه اللافت في دراسته. بيد أن قدراته العقلية بدأت تخبو، أو توقف تطوّرها بسبب المعاملة التي يلقاها من والده، إذ وصلت به الأمور إلى حدّ إجبار الصغير على ترك المدرسة، والتفرغ لبيع المحارم الورقية على قارعات الشوارع. ويتصدّر غياب بيئة حاضنة في الأسرة أو المدرسة، قائمة الأسباب في ضمور المواهب وإعاقة نمو ذكاء كثيرين من الأطفال اليمنيين «المميزين» الذين يولدون بذكاء فطري عالٍ قبل أن يصطدموا بالواقع غير المؤهل لتفهم قدراتهم، ما يؤدي إلى ضمور أو وأد مواهب الكثير منهم. وفي ظلّ معاناة 70 في المئة من السكان في اليمن من فقر الغذاء، وأميّة متفشية بأكثر من 50 في المئة، فضلاً عن الخلل البنيوي في النظام التعليمي، تبدو «العبقرية» أكثر ندرة وصعوبة. وحدها الصدفة الحسنة تلعب دوراً مع بعض الأطفال الموهوبين، من أصحاب القدرات الخاصة الذين شقّوا طريقهم في بيئة اجتماعية «طاردة للمواهب ومعيقة للنبوغ والتميز». شرعت الحكومة اليمنية قبل أربع سنوات في تنفيذ ما أسمته «البرنامج الوطني لرعاية وتعليم الموهوبين»، ويتضمن إقامة حاضنات تعليمية للموهوبين في أربع مدارس للبنين والبنات في صنعاء وعدن وتعز، إلّا أن المبادرة عصت على التنفيذ مع عوامل متعددة حالت دون نهوضها على أسس سليمة وعلمية. وتشير مديرة مدرسة عدن للموهوبين إلى وجود ضعف في البيئة المدرسية اللازمة لتحفيز القدرات العقلية الخاصة وتنميتها، وغياب التميز في هذا النوع من المدارس المفترض أن تشكل حاضنة لذوي العبقريات. وتقول منسقة البرنامج في ثانوية عدن للبنات، منى مصطفى: «يشكل إخضاع الأطفال لاختبارات قياس معدل الذكاء المعيار الأساس لترشيح وقبول التلاميذ والتلميذات أصحاب الموهبة، إلّا أن أياً من هذه المدارس لا يملك أية مقومات رئيسة لتنمية العبقرية كما هو متّبع عالمياً». وإلى جانب ضعف أو غياب البنية التحتية الداعمة كالمعامل والورش وغيرها، يعاني الكادر التعليمي من نقص في التدريب والتأهيل. وتتبع هذه المدارس المنهاج المطبّق في المدارس الحكومية، مع إضافة ما يُسمى بالمواد «الإثرائية»، وهي دروس إضافية تهدف إلى تنمية التفكير والقيادة واللغات الأجنبية. التميّز ضحية التلقين ويشكو بعض الطلاب من «انتشار الغش وغياب أجواء المرح واتباع بعض المعلمين والمعلمات أسلوب التلقين»، وتقول مروى، المميزة بالرياضيات: «يسأل المدرّس في نهاية كل حصة «هل فهمتن؟»، قبل أن يطلب منّا الحفظ»، متسائلة: «ألا يتعارض الحفظ مع مبدأ الفهم، وبخاصة في المجالات العلمية؟». ويحذّر منسق الفريق الفني للبرنامج الوطني لرعاية وتعليم الموهوبين، عادل البنا، من فشل البرنامج، بسبب «عدم تمويل البرنامج، لجهة شراء المواد الخاصة بالمعامل والأدوات التقنية وتدريب المعلمين ودورات اللغات الأجنبية المخصصة للطلاب، إضافة إلى عدم صرف الحوافز المالية للمعلمين». ويلفت إلى أن «الشخصنة والمحسوبية تضاعفان المعوقات». وتشير معلومات إلى مسعى رسمي لدمج برنامج رعاية وتعليم الموهوبين مع برنامج الجودة التعليمية الذي تعتزم وزارة التعليم تنفيذه، ما يهدّد تجربة رعاية الموهوبين، وفق رأي أصحاب الاختصاص. وتغيب الإنترنت عن المدارس المعنية باحتضان الموهوبين، وتعاني من قلّة عدد الحواسيب وغياب بيئة المرح والنشاط الحر، إذ يُصار إلى استبدال وقت الراحة بالذهاب إلى المكتبة، ما يحرم الطلاب والطالبات من الحق المشروع بالفسحة، إضافة إلى غياب الرحلات العلمية. ويلعب واقع الأسر دوراً كبيراً في اكتشاف المميزين، ويبدو أبناء الأسر المتعلمة، أكثر حظاً في اكتشاف مواهبهم. ويوصف المنهج التعليمي اليمني بالحشو وبأنه يحتوي على مضامين غيبية ما يحول دون حفز الميول العقلانية لدى الطالب. ويلجأ بعض الأساتذة إلى فرض آرائهم الاجتماعية وميولهم الدينية على الطلاب، كعدم السماح لطالبة تهوى «الراب» من ممارسة هوايتها، وعادة ما يتم شرح بعض الظواهر الطبيعية كسقوط المطر والخسوف والكسوف بطريقة تفضي إلى استنتاجات غير علمية. وتشدّد الدراسات على دور الأسرة في تنمية الموهبة لدى الطفل. لكنها تؤكد وجود دور تكاملي بين الأسرة والمدرسة. وعلى رغم أن الصفوف الأولى تشكل أساس اكتشاف الأطفال ذوي القدرات العقلية الخاصة، إلا أن رياض الأطفال وصفوف التعليم التمهيدي والابتدائي لا تزال خارج أي اهتمام رسمي في هذا الشأن؛ وغالباً ما يؤدي التعليم النمطي التقليدي في هذه الصفوف إلى طمس المواهب وتسرّب أصحابها. هي الموهبة اليمنية عرضة للضمور والزوال، واللافت أن بعض الأطفال من أصحاب الجنح أو الأحداث الذين ارتكبوا جرائم، كانوا من أصحاب المواهب الفذّة وعرف عنهم نبوغهم وتميزهم عن أقرانهم، قبل أن يصطدموا بالواقع.