درج سكان العاصمة الإسبانية مدريد، على مغادرتها الى الأرياف في مناسبة «سيمانا سانتا» (عيد الفصح)، لكن ثلاثة أرباعهم بقوا في العاصمة هذا العام، فمع تقلص موازنة الأسر الإسبانية وارتفاع عدد العاطلين عن العمل الى اكثر من 4 ملايين نسمة، وهو العدد الأعلى في أوروبا، تحوَّل الحلم الإسباني -الذي استند الى فقاعة عقارية ضخمة - كابوساً. يشعر الإسبان اليوم بالمهانة. فالقادة الأوروبيون، من أمثال الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، يعظونهم ويعتبرون أن النموذج الإسباني لا يحتذى به. وفي حين يكتفي عدد من الشباب الإسبان بالصلاة، يتظاهر آخرون، والأسبوع الماضي خرج آلاف من الشبان الى الشوارع للاحتجاج على الخطة الحكومية الأقسى منذ نهاية الديكتاتورية لتقليص الإنفاق. أكثر الشباب غضباً هم أولئك الذين لم يستفيدوا من أعوام البحبوبة مطلع عام 2000، إذ بلغ النمو في إسبانيا يومها معدلات حسدتها عليها أوروبا. لكن الإسبان اليوم يعانون تداعيات تقليص الإنفاق القاسية، فرافاييل أنيبال (28 عاماً) -على سبيل المثال- شاب لمع في متابعة تحصيله العلمي، وشجعه والداه -الأستاذان الجامعيان- على مراكمة الشهادات الجامعية العليا، حيث درس في بوسطن الأميركية، ثم انتقل الى جامعة إرلندية، وأخيراً عاد الى إسبانيا لمتابعة شهادة ماجستير في الإعلام، وكلفة هذه الدراسة 15 ألف يورو... أمضى شهوراً طويلة في البحث عن عمل، وانتهى به الأمر الى قبول عمل بسيط في شركة تلفزيونية خاصة. «راتبي كان 1200 يورو، وكان في وسع الإدارة صرفي ساعة تشاء». سُرح رافاييل بعد عام فقط على استلامه الوظيفة، والى اليوم لم يغادر صفوف العاطلين عن العمل، ولم يجد عملاً مجزياً، فالرواتب التي عرضت عليه لا تتخطى 700 يورو. «في قطاع الإعلام لا تتوافر فرص جديدة»، يعلِّق والمرارةُ ترتسم على وجهه. عدد كبير من أصدقاء رافاييل يكابدون مصيره ذاته: هم من اصحاب الكفاءات العالية، والواحد منهم حائز أكثر من شهادة جامعية، لكنهم لا يجدون عملاً يناسب كفاءاتهم، شأن تلك الشابة الحائزة شهادة في علم النفس وتجوب المستشفيات لبيع معدات طبية، أو الخبير في التسويق ويعمل موظف استقبال في قاعة اجتماعات... للأسف، البطالة أصابت نصفَ من هم بين 18 و35 سنة. إلى ذلك، قرر عدد كبير من الشباب الإسبان سلوك طريق الهجرة، كما فعل أجدادهم، لكنهم -على خلاف الأجداد- حملة شهادات جامعية. وعلى سبيل المثال، قصد باكو -المجاز في الكيمياء- باريس، وهو يعمل اليوم نادلاً في مقهى ويتقاضى ما يفوق الراتب المعروض عليه في إسبانيا. وأنشأ رافاييل أنيبال مدونة الكترونية لنشر تجارب الجيل الجديد من المهاجرين الإسبان. «بعد أن ذكرت صحيفة «إل باييس» مدونتي على صفحاتها، تلقيت مئات الرسائل الإلكترونية تروي تجارب اصحابها في الهجرة»، يقول. الردود هذه بَلَغَتْه من أنحاء العالم كلها، من شاب يعمل في مقهى بهونغ كونغ، إلى خبراء اقتصاديين في كوستاريكا... وغيرهم. لكن شريحة «18-35» العمرية ليست وحدها ضحية الأزمة، فعجلة الاقتصاد كلاًّ توقفت عن الدوران، وتجربة كارلوس، الرجل الخمسيني اللطيف صاحب الشركة الصغيرة التي تزود المنازل أرضيات خشبية وسلالم، هي مرآة أحوال شركات كثيرة. «زبائني جلّهم من الطبقة الوسطى والطبقة الأكثر ثراء. خسرت 70 في المئة من المبيعات نتيجة الأزمة في أشهر قليلة... واضطررت الى تغيير طريقة عمل الشركة ونهجهها، وصرت أستورد معظم معدات العمل من بولندا وهنغاريا والصين لأوفّر نحو 40 في المئة من التكلفة... وعلى رغم هذه الإجراءات، سرّحتُ 24 عاملاً من 35... وقلصت رواتبي الى النصف». كما أثّرت الأزمة في حياة كارلوس الزوجية، فعلى رغم انفصاله عن شريكته سوزانا وله منها ولدان، الأول في الثانية والعشرين والثاني في الخامسة والعشرين، مازالت تشاركه والولدان السكن، فليس في مقدور سوزانا شراء منزل خاص بها أو استئجار شقة، واضطرت الى تأجير قسم من المنزل الكبير الذي اشترته وكارلوس قبل اعوام. وهي مجازة في الهندسة الزراعية، ولم تجد فرصة عمل بعد ان شبّ أولادها. واليوم وجدت عملاً بدوام جزئي، وتقول أن اصحاب العمل اضطروا الى توظيفها احتراماً لكوتا تلزمهم توظيف النساء. «لسان حال اصدقائي كلهم هو الكلام على ضرورة الاستغناء عن الكماليات، والحياة مدارها على تأمين لقمة العيش وارتداء الملابس والخروج مع الأصدقاء من حين الى آخر للحفاظ على المعنويات العالية»، تقول سوزانا. في المساء تكتظ الشوارع والمقاصف في وسط المدينة، على وقع موسيقى تعزفها فرقة أوركسترا. يقول ميغيل انغل مراتن (35 عاماً) المجاز في الفلسفة الذي يشغل وظيفة رجل امن في حديقة، إن الكلام على الأزمة هو لازمة دردشات الأصدقاء. والحق أن مستوى عيش أهالي مدريد لم يتقهقر، لكنهم اليوم «مثقلون بالديون»، على قول كارلوس. فالانهيار كان سريعاً، ولم يستطع الناس التكيف مع الظروف الطارئة والأحوال الجديدة. وعلى رغم ميلهم الى التفاؤل، لا يرى الإسبان ان نهاية الأزمة قريبة. * مراسل، عن «لكسبريس» الفرنسية، 11/4/2012، إعداد منال نحاس