تقدِّم الروائية الأردنية كفى الزعبي في روايتها «ابن الحرام»، (دارالتكوين، دمشق 2012)، احوالَ الصراع بين الأجيال والمنظومات والأفكار. تنقِّب في سِيَر بعض متصدري الواجهات وتُظهرها للقارئ كأنها تلتقط صورها من قيعان الذاكرة، تسردها بصراحة قد تبدو «فجة»، وفي سياق مكاني معمَّم، وزماني غير محدَّد بدقة، في عالم تسوده الرغبات الشريرة وتتحكم به سلطات لا تعترف بالقيم والمبادئ والمشاعر، وذلك عبر شخصيات مقهورة في مجتمع قاهر متخلف، نماذج مكسورة يتناهبها الأسى والقهر. كريم، الراوي الذي يعلن نيته كتابة الرواية وتوثيق الوقائع والتواريخ، يعود بذاكرته بدايةً عودتَه المُتخيَّلة إلى بلده الذي عاش فيه الظلم والإذلال، تعقبها عودة واقعية إلى مسرح الأحداث، بعد قراره أنه بصدد إنهاء كتابته عن الشخصيات التي عرفها والأحداث التي مر بها، وشكلت منعطفات وتصدعاتٍ وشروخاً في حياته، لم يستطع الشفاء منها طيلة السنين التي قضاها في الغربة. بل هي كانت كرة نار تكبر في أحشائه وذاكرته. تعاوده رغبة الكتابة والتوثيق، كما يظن، لكن الرغبة الحقيقية تربض في داخله، وهي رغبة الانتقام، وحين يعود يجد أن البلدة تغيرت، وأن والده شوّهها بتلاعباته، وشوه إخوته بالمال والنفوذ. يعود كريم بالذاكرة إلى مدينته التي هُجِّر منها بعد اتهامه بالاعتداء على فتاة كان يحبها، وكان إقصاؤه مخططاً على يد أبيه الذي كان ألقى به وبأمه وإخوته في بيت مهمَل بائس، هاجراً إياهم إلى زوجاته الأخريات ومشاريعه الكثيرة ونزواته الإجرامية. يحمل كريم معه كيساً أسودَ كأنه صرة الغجري، ينقله معه في حله وترحاله، يخشى الاقتراب منه وفتحه، وبعد خمس عشرة سنة في الغربة والنفي، يقرر فتح كيس ذكرياته، بفتح ثقب تنهال منه الذكريات، يكون ذاك الكيس بمثابة صندوقه الأسود، لتبدأ رحلة العودة إلى الجذور، إلى الجد ومن بعده الأب، يعود إلى أزمنة غابرة، تلك التي شكّلت الأرضية للراهن الذي يجد نفسه مرميّاً فيه مكبل القوى، حيث الذاكرة تكون مستودعَ أسراره وألغازه وآلامه، مستودعَ باروده الذي يفجره في وجوه جلاديه من ذويه. قتل الأب والابن يظل قتل الأب هاجس كل من يوسف وابنه كريم، يوسف الذي كان مدفوعاً برغبة مجنونة في قتل فالح الذي كان يستميت في العثور عليه للتخلص منه. تتصاعد رغبة القتل لديه ليسعى إلى التخلص من ابنه كريم، وكريم يحمل أساه وقهره وظلمه في داخله، ويكون مسكوناً بالهاجس نفسه وهو قتل ذاك الطوطم المجرم. تقدم الروائية سلالة مدنسة، تبتدئ مع الجد فالح الذي كان راعياً بسيطاً، سرق بعض الحيوانات التي كان يرعى بها، بادلها بخنجر، وحاول الفرار إلى مناطق بعيدة مع زوجته، وصادف في الصحراء قاطعَي طريق، اعتديا على زوجته، في حين فر هو هارباً بجلده، متبرئاً من زوجته التي تركها نهباً للمغتصِبَيْن. ثم رجع إليها ليلاً ليجدها في حالة يُرثى لها، ويجد الرجلين غارقَيْنِ في النوم بعد فعلتهما النكراء، ينقض عليهما في لحظة جرأة خاطفة ويقتلهما، ثم يأخذ ما بحوزتهما من نقود ذهبية، كانت كافية لبداية جديدة بالنسبة له. حين وصل فالح إلى إحدى القرى، قص الحكاية بكثير من التحوير، أظهر نفسه بطلاً ذاد عن شرفه، واستبسل في قتال قطاع الطرق. وكانت زوجته تلتزم الصمت، وتنظر إليه باحتقار لأنه لم يدافع عنها. وكان أن اكتشفت بعد ذلك أنها قد حبلت، فتكتمت على حملها، وقررت أن يكون وسيلتها للانتقام من زوجها العقيم، الذي تجعله يدفع ثمن جبنه وتخاذله ندماً طيلة عمره. ويكون صمتها المدوي وسيلة لمجابهة جُبن زوجها الذي اختلق لنفسه سيرة ونصَّب نفسه شيخاً، بعد أن اشترى الأراضي والعقارات، وتزوج بأكثر من امرأة. لم يكتشف فالح حملها إلا بعد مرور بضعة أشهر، وكانت فجيعة له، فحار وأدرك أنه وقع ضحية انتقامها. لم يستطع التبرؤ من حملها، لأنه كان زعم حمايته لها وشراسته في الدفاع عنها، ثم انكبّ عليها محاولاً قتل الجنين في بطنها، لكنه لم يفلح في ذلك، لأن إرادة الانتقام كانت أقوى، وأبى الطفل إلا أن يعيش. وبعد وضْعها مولودها، فرت الزوجة بابنها يوسف، لأنها أيقنت أن فالحاً يُبيِّت قتله، وهي تريد الاحتفاظ به ليكون الشاهد على الإجرام والدنس والتخاذل، برغم كرهها له. إلا أنها كانت تحميه، وبدأت مسيرة الهرب به، وتخليصه من يدي فالح. دام هروبها خمس سنوات، لم يفتأ فالح خلالها يبحث عنها في كل مكان، زاعماً أنه يبحث عن ابنه المخطوف من زوجته البلهاء، في حين يبيت الانتقام منها ومن ابن الحرام الذي تحمله في بطنها. كانت الفجيعة لكليهما أن عيون يوسف كانت تشبه عيون فالح، وبرغم يقين فالح أنه عقيم، ولاسيما بعد زيجاته المتكررة، حار في عيون يوسف، وحقد عليه، وحاول أكثر من مرة قتله. لكن المصادفات والظروف كانت تُنجيه. وبالفعل كان الولد عقوبة لفالح، وتسبب في مقتله، وورث عنه الأراضي والثروات والمشيخة، وبدأ ينكل بكل مَن يعترض سبيله. استهل شناعاته بالاعتداء على فتاة نحيلة سمراء اضطر للزواج بها بعد فعلته، ثم بعد إنجابه بضعة أولاد منها هجرها، وتركها نهباً للفقر والجوع والحاجة. يرث يوسف الحقد من فالح، فضلاً عن الثروة، يغلف حقده بدهاء ومكر، وذلك بإعطاء صورة الرجل الكريم الشهم ذي الحسب والنسب، يساعده المال الذي يُعمي به الأبصار ويسد الأفواه في تعميم تلك الصورة وترويجها. ومع اجتياح الوسائل الحديثة والأنماط الغربية، يقوم بإجراء العديد من المشاريع، فتتضخم ثروته، ويتضخم معها حقده على البشر. أما الأبناء سالم وعماد وكريم وفاطمة، فإنهم كانوا مع أمهم البائسة على هامش الحياة، غير واردين في حسابات يوسف. يشقون دروبهم في الحياة بصعوبة وقسوة، يعانون الأمرّين في سعيهم، يعملون ويدرسون، وحين يحتاجونه فإنه ينهال عليهم بالشتائم والإذلال، ولا يعطيهم ما يسد حاجتهم. يكبر الأبناء، يختطُّ كل واحد منهم لنفسه سبيلاً في الحياة، فسالم يتسلم رئاسة تحرير إحدى الصحف، بعد استغلال نفوذ أبيه إثر المصالحة المتواطئة التي تمت بينهما بعد إقصاء كريم. وكان الإقصاء فجيعة، إذ لُفقت له تهمة الاعتداء على حبيبته يسرى ابنة الأرملة حميدة، يسرى التي كانت تبادله الحب، وقعت في فخاخ يوسف التي اعتدى عليها، واشترى ذمَم أعمامها بما ذَرَّه في عيونهم من نقود، وأبعد ابنه عن البلد، واستفرد بالفتاة الجميلة التي ظل يحلم بها طويلاً. فجائع ومماحكات يفاجئ كريم إخوته بالعودة في العيد، يكون الأضحية الدائمة على مذبح الحب والأسى والاغتراب والنفي والبنوة المشوَّهة والأبوة غير اللائقة باسمها. يصادف عجوزاً على الطريق، يسأله عن عنوان بيت أهله، لكن العجوز يسخر منه، كأنه صدى لماضيه المرير. يرافقه ذاك العجوز إلى نهاية الرواية، ويتبدى محركاً فاعلاً للأحداث، حين يزعم على الملأ أنه الشيطان، يتجسد للجميع، يتغلغل في نفوسهم، يُسير تصرفاتهم وسلوكياتهم، يتحمل عنهم آثامهم وخطاياهم، يشير لأتباعه فيتبعونه ويظنون أنهم يلعنونه، ويتبرأون من سيل خطاياهم متهمينه بالوسوسة بها والدفع المُكره إليها. ينهض العجوز بدور محوري، من وراء ستار الرغبات الجامحة، حيث يجمع العاشقين القديمين اللذين فرق بينهما ابن الحرام وأبو الإجرام. تزور يسرى كريماً في شقته، تتبع صدى صوتٍ يأتيها ويلح عليها بالذهاب، تطمح أن تتخفف من عذاب الضمير. تكون المواجهة مؤلمة جداً، يدرك كل منهما تغير الآخر، ولا يأبه كريم للتبرير، أو اختلاق الذرائع. ولم يقتنع بما ساقته من مبررات غير مقنعة لها وله، واعترف لها بسكناه في الماضي معها في أتون حب لوثته الأطماع والرغبات الشريرة لرجل ورث الحقد والإجرام والاعتداء. وتكتمل دائرة النار، باكتشاف يوسف اللقاء الذي جمع بينهما، يسارع إلى شقة كريم، وتكون المواجهة التي جاهد كريم خمسة عشرة سنة لتحقيقها، وظل يهجس بها ليله ونهاره، وهو الذي يقرر أنه سيعود ليواجه قاتله يوسف، ولا يدري هل سيكون القتيل أم سيكون القاتل، ويعلم أن يوسف قتل فيه كل شيء جميل، شرده واعتدى على حبيبته وسطا على حياته وجرده من إنسانيته. اللقاء يشكل النهاية والبداية معاً، ويبقى معلقاً بانتظار التخمينات والتكهنات.. توظف الزعبي بعض التصورات الفلسفية والدينية، وجوانب من المدارس الفكرية والأدبية توظيفاً مُحكماً، لتكشف في روايتها، عبر سرد دقيق محبوك وجرأة فكرية وفنية، النقابَ عن المسكوت عنه في العلاقات المحرمة، والعوامل التي تساهم في تشويه البشر وتلويث نقائهم. وتناقش في روايتها جدلية الحلال والحرام من مناظير مختلفة، تقترب في بعض فصولها من مماحكات حول الخير والشر، الجريمة والعقاب، كما تتناص في فصولها الأخيرة مع بعض القصص التي ناقشت موضوع التضحية، كقصة «الشهيد» لتوفيق الحكيم، وكذلك تفكك المنظومات التي ينهض عليها المجتمع، ابتداءً بالرغبات وسطوتها وسبل تجليها، مروراً بالسلوكيات الشائنة التي تجد لها ذرائع تحت مسميات شتى بزعامة القدرة والنفوذ، والمال الذي يوجه ويتسيد، يبرئ ويجرم، يُعز الوضيع ويُذل المتسامي.