دائماً ما تحتمل أزمنة التحولات التاريخية كثيراً من المشاريع النقدية السياسية التي تراقب الواقع من قريب أو من بعيد، ولخصوصية مصر الجغرافية وعمقها التاريخي والفكري في المنطقة العربية، فإنها تحظى باهتمام إقليمي ودولي، يحاول قراءة الواقع القائم، واستشراف المرحلة المقبلة، وهي المنعطف الأهم والمتمثل في الانتخابات الرئاسية في مصر، وفي الوقت الذي أؤمن فيه بأن القارئ عن بعد يعاني من افتقاد كثير من المعطيات المادية، لكنّه في الوقت ذاته يمتلك القدرة على مشاهدة الواقع بصورة أوسع ممن يخوض غمار الحدث التاريخي، فإذا ما أردنا أن نتفهم واقع أي حراك مجتمعي، وأن نعي ديناميته بشكل أكبر، فنحن بحاجة إلى أن نتعمق أكثر في فهم طبيعة بنية ذلك الواقع اجتماعياً وفكرياً واقتصادياً وأخلاقياً، عندها فقط يمكن أن تكتمل لنا خريطة الواقع، الذي نحاول البحث فيه، ومن ثم يمكن أن نضعه في سياقه التفاعلي المستقبلي، فلا يمكن لأية عملية نقدية سياسية أن تنجح من دون تقديم صورة لطبيعة العقل المحرك للقوى المتصارعة ولبيئة العمل السياسي، فالعقل المحرك بما يكتنزه من معارف وثقافات وتراكمات تاريخية يلعب دوراً كبيراً في التعاطي مع أي صراع، وكذلك البيئة السياسية المتشكلة في صور متعددة ك«بيئة ديموقراطية/ استبدادية، وفي ظروف كالاستقرار/ التغير» تعتبر المعطى الآخر لأية دراسة جادة، فالدراسات النقدية إذا أغفلت البحث عن البيئة السياسية والدوافع الفكرية والمعرفية لأي حراك، فإنها ستقدم صوراً غير مكتملة وأحكاماً مجتزأة. ولوظيفة المقالة الصحافية، سأكتفي بالحديث هنا عن جماعة الإخوان المسلمين، باعتبارها تمتلك الأغلبية، وتتحكم في كثير من معطيات الصراع الانتخابي، وسأتحدث مصطحباً البعدين المشار لهما سابقاً (البيئة السياسية، العقل المحرك)، فحتى نتفهم مواقف جامعة الإخوان أكثر نحن بحاجة لدرس علاقاتها المتبادلة مع النظام السابق ومع القوى الأخرى التي تتسم بالصراع التاريخي الطويل، فأي حركةٍ بشرية أو مجتمعٍ بشري يتشكل من ثلاثة مركبات: الفعل والعلاقة والبنية، التي تتمحور جميعها حول الإنسان كقوة فاعلة، فكما أن جماعة الإخوان أسهمت في تشكيل جزء من تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي والفكري في العقود السابقة، فتاريخ مصر في الوقت ذاته أسهم في تكوين الجماعة ورؤيتها ومشاريعها، فنشأت الجماعة وتكوينها ومشاريعها التربوية والفكرية تشكلت في عصر الاستبداد واندمجت معه وتأثرت به، فحراك الجماعة السياسي اليوم أحد مخرجات تاريخ الجماعة وعلاقاتها سواءً مع النظام السابق أو القوى السياسية والفكرية الأخرى المضادة لها وحتى المقاربة لها كالسلفيين، واليوم وبعد الثورة أصبح من الضروري لجماعة الإخوان أن تقوم بنقد وتقويم مشروعها الفكري والسياسي في ظل الواقع الجديد بالكلية، فجماعة الإخوان لها تاريخٌ من الصراع مع النظام السابق وفترات من القمع والسجن والتهميش عن الحراك الاجتماعي والسياسي، وبلحظة تاريخية وبين عشية وضحاها وجدت الجماعة الجماهير تلتف حولها وتصوت لها بالأغلبية البرلمانية، فالتحولات السريعة هذه من التهميش للسلطة كانت لها آثارها النفسية والسوسيو - سياسية في تعاطي الجماعة مع اللحظة الحاضرة، وهذا ما يمكن أن يطلق عليه «لحظة ارتداد الأفكار» التي تحتاج من الحركة أن تعطي نفسها مزيداً من الوقت للمراجعة والبحث، لا أن تدفع بنفسها لتستولي على السلطة التنفيذية والتشريعية ولجنة صياغة الدستور! في ما يمكن أن يصوّر على أنه استبدادٌ آخر بشرعية ديموقراطية، وهذا ما دفع فهمي هويدي لأن يطلق على ذلك «الفخ» الذي سقط فيه الإخوان، فهناك من يحاول دفع الإخوان للفشل حتى تعلق عليهم جميع أزمات المرحلة. لقد كان قرار الجماعة ترشيح خيرت الشاطر مفاجأة للكل، لاسيما بعد تأكيدها المسبق أنها لن تدفع بممثل لها في السلطة التنفيذية، وأنها ستكتفي بالجانب التشريعي ومراقبة الحكومة، وربما عللت الجماعة ذلك بأنها تحاول أن تكون أكثر مرونة في واقع متغير غير ثابت! لكن السؤال هل الجماعة تخلط بين الاستراتيجية والتكتيك السياسي، فالتحرك لترشيح أحد قياداتها لكرسي الرئاسة لا يمكن أن يكون تكتيكاً مرحلياً بل هو تغير استراتيجي كامل في نظرة الحركة لموقفها السياسي في مصر ما بعد الثورة! وعند النظر في العقل المحرك لمواقف الإخوان المتسارعة والمتناقضة أحياناً مصطحبين في ذلك البيئة السياسية السابقة، سيتبين لنا مركزية «الجماعة» في العقل الإخواني، فمجلس شورى الإخوان المسلمين على رغم تشكيله لحزب سياسي بمسمى «الحرية والعدالة» لكن هذا الحزب لا يمتلك حرية الحركة من غير العودة للمرشد ومجلس شورى الجماعة، ولذا كان ترشيح خيرت الشاطر بقرار من مجلس شورى الجماعة لا من حزب الحرية والعدالة المخول بالعمل السياسي، وأبو الفتوح على رغم انتمائه السابق للإخوان لكن الإخوان يرفضون التصويت له لا لشيء سوى أنه خالف توجيهات الجماعة وقام بترشيح نفسه! فالعقل الإخواني إذاً «مبرمج» ومتمركز حول الجماعة في قراراته، وهذا ما سبق أن قلناه بأن تاريخ الجماعة وصراعاتها المتبادلة مع النظام السابق والقوى الأخرى حتى القوى الإسلامية الأخرى جعلها تنظر لهذه المرحلة من عين الجماعة، وتحاول أن تصنع المرحلة من منظور الإخوان المسلمين، فالعقل المبرمج الذي تأسره ثقافة الحزب دائماً ما يعاني من النظرة الأحادية التي تسلبه النظر في المصالح العليا، وتصوغ وعيه بآليات مزيفة لا تخدم المشاريع الكبرى «الإسلام» و«مصر»، فالعقل الإخواني «المبرمج» لا يسعى لتفّهم ظروف المرحلة والتعاطي معها مباشرة بقدر ما يحاول استلهام ذاكرة الجماعة الناظرة إليه والمنظرة له! إن تجاهل المشروع الإسلامي الذي تتحدث عنه الجماعة، وتجاهل جماهير الشباب والشعب الذين صنعوا الثورة من أجل غيرهم يعرض الإخوان المسلمين كقوة أغلبية لأن تقع ضحية الفشل في أول الاختبارات الحقيقية لها وللمشروع الإسلامي، فالواقع القائم في مصر اليوم لا يحتمل كل هذه المغامرات السياسية التي تخوضها «الجماعة»، وهذا ما دفع البعض أن يصف مواقف الإخوان الأخيرة بأنها أشبه ما يكون بالانتحار السياسي، فالثورة كفعلٍ لحظي تحتاج إلى إعادة بناء متكاملة للإنسان/ الحزب/ المجتمع، تشمل حيّز التصورات والأفكار والسياسات، حتى تكون المشاريع والبرامج الانتخابية تخدم الصالح العام لا مصالح الحزب الوقتية، فإن الحديث اليوم عن مشاريعٍ انتخابية في بلد لم يسقط فيه مجلس الشعب أو الحكومة فقط بل النظام بأكمله حديث يحتاج إلى إعادة نظر من ناحية سياسية، فالواقع المصري اليوم لا يحتمل البرامج الانتخابية المعلنة ،سواءً من الإخوان أو من غيرهم والتي لا تعدو أن تكون شعارات سياسية تسعى للاستقطاب واحتواء الأصوات الانتخابية لا أكثر، فمصر أمام مرحلة إعادة بناء دولة بمؤسساتها ودستورها، وليست في واقع ديموقراطي ثابت ومستقر حتى تحتمل الوعود والبرامج الانتخابية. إن النقد الموجه لجماعة الإخوان في هذه المقالة لا يعني إقراراً ضمنياً لما يجول بالساحة المصرية السياسية ككل، فالحالة السياسية المصرية لم تصل بعد إلى مرحلة النضج، وهذا أمر مبرر في ظل دولة ما بعد الثورة، لكنّ غير المبرر ما يأتي: - أن تنشغل القوى السياسية بصراعاتها الحزبية فتحول الثورة لسلعة تحاول أن تجني من ورائها مكاسب شخصية أو حزبية. - غلبة الخطاب الثوري على خطاب العقل والمصلحة، فالدعوة لتحول الثورة إلى ثورات بسبب استبعاد مرشح أو موقف سياسي مضاد أمر يحتاج إلى مراجعة. - الانشغال باللحظة الحاضرة عن مراجعة المشاريع الفكرية والسياسية والاستراتيجيات الحركية في ظل المعطيات والمتغيرات المستجدة في دولة ما بعد الثورة. وهنا يمكن أن أخرج من هذه الرؤية الموجزة بالحديث عن أهمية أن توحد الحركات الإسلامية موقفها السياسي في السباق الرئاسي، لاسيما وهي تنطلق وتعود إلى مشروع واحد، وأن تسمح جماعة الإخوان لغيرهم بمشاركتهم همّ مصر ما بعد الثورة، فأبو الفتوح مثلاً المرشح الأكثر حظاً في هذه الفترة يمكن أن يصل الإخوان معه إلى اتفاق تسويةٍ سياسي، لاسيما أن الجماعة الإسلامية والسلفيين قاب قوسين أو أدنى من دعم أبو الفتوح، إضافة إلى أن شباب الإخوان يؤيد كثير منهم ترشح أبو الفتوح خلافاً لما عليه رأي الجماعة، وحين تتغلب جماعة الإخوان على أزمة مركزية الجماعة وتراجع مشروعها الفكري والسياسي، فإن أبو الفتوح لن يسجن قادتها كما اتهمه بذلك عضو مجلس شورى الإخوان محيي الزايط الذي قال: «أبو الفتوح سيكون ديكتاتورياً إذا فاز بالرئاسة، وسيضعنا في السجون كما فعل عبدالناصر»! * مستشار قانوني. [email protected]