ترى الشاعرة والكاتبة الكويتية سعاد الصباح أن المشهد الثقافي العربي مرآة الإنسان العربي، لكنه محبط وضائع، فالبوصلة الثقافية مكسورة، والأوطان يكسوها الضباب. وأكدت أن المشهد الثقافي العربي «يريد أن يخرج إلى الضوء ليصرخ بهمومه من دون خوف، فهذا كل ما يريد، ولأن المثقف مسؤول عن تفجير الأمل والفرح في صدر أمته، فلا بدّ أن يخترع الفجر في هذه العتمة، وأن يزرع الورد في الأرض الخراب». وقالت في حوار مع «الحياة» إن تباين الأساليب الشعرية في قصائدها يعود إلى أن قانون التطوّر لا ينطبق على الطبيعة وحدها وإنما ينطبق على الإنسان أيضاً، مشيرة إلى أن الشاعر الحقيقي هو مجموعة تحوّلات وانقلابات على نفسه. وأكدت أن دار سعاد الصباح ستبقى تحتضن إنتاج الشباب، من خلال جوائزها التي تقدمها للمبدعين وطبع نتاجاتهم المميّزة، وقد مضى على ذلك أكثر من ربع قرن، موضحة أنها تستثمر في العقل، لإيمانها بأن العقل العربي هو عقل ديناميكي ولّاد، على رغم كل المحاولات التي تسعى لإجهاضه. وهنا نص الحوار: أمسية شعرية في السعودية ماذا يعني ذلك، هل من دلالات، وما سبب انقطاعك الطويل؟ - ليس في الأمسية الشعرية إلا دلالات المحبة والود، والاجتماع على ألق القصائد. أمسية شعرية في المملكة تعني أنني سأقف تحت مطر الشعر، وأغتسل بضوء الكلمات. أمسية في المملكة يعني أن القلب يعثر على «آهته» أخيراً. أما بخصوص الانقطاع الذي تتحدث عنه لا يوجد قطيعة، ولا سبب للقطيعة، فالطير الذي فرد جناحيه وجاب الفضاءات، يعود الآن إلى شجرته الوارفة، ويندس تحت دفء جناح أمه. ولن تسأله أمه عن سبب طيرانه الطويل، فهي لم تنجبه إلا ليكون حراً محلقاً، وهكذا كنت حلقت عنها بقلب المحبة، وعدت إليها بالقلب ذاته، فهي قِبلة القلب دوماً. وعندما يعود القلب إلى بيته لا تسأله لما عاد؟ كيف وجدت قارئك السعودي تحديداً؟ - وجدته كما تمنيته. مسرف في كرمه ومتسامح، وفي الوقت ذاته يجب أن يحسب له الكاتب ألف حساب. تأتي أمسيتك في أيام مفصلية تعيشها الشعوب العربية، أيام أطاحت كراسي وزلزلت قادة تاريخيين، ماذا يصنع شعرك ونثرك في مثل هذه الظروف وما موقفه؟ - كل شاعر يا سيدي مزروع - شاء أم أبى - في رحم الأرض والتاريخ، وهو لا يستطيع أن ينفصل عن موروثه التاريخي والثقافي والاجتماعي والقومي، لذلك - بوعي أو لا وعي منه - يلتزم بقضايا عصره ويتفاعل مع الهزات السياسية التي تنفجر حوله. وأرى أن الالتزام السياسي ما هو إلا تحصيل حاصل، فلا يمكنني الهروب من محيطي القومي. كما لا تستطيع السمكة أن تهرب من محيطها المائي. إن الأحداث القومية الكبرى تركت بصماتها على كتاباتي ابتداءً من الحرب الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي... حتى يومنا هذا. وأستطيع القول إنه ليس ثمة حادثة قومية كبيرة أو صغيرة عصفت بالوطن الكبير لم تهزني ولم تترك آثارها على أوراقي/ سواء كان شعراً أم نثراً أم مقالاً صحافياً. أين الشعر اليوم مما يحدث في الوطن العربي، خصوصاً أن ثورة تونس انطلقت من بيت شعري لأبي القاسم الشابي؟ - بالنسبة إليّ، شعري عاش الثورة منذ تفتح وروده الأولى، وهي الورود التي عرفت الغضب في ما بعد. فأنا التي قلت: الأرض لا يفلحها إلا الغضب، وأنا التي غنت للحجر وللحرية وللحب. عروبتي سكنت شعري، ومن عروبتي أطالع اليوم ما يحدث بحزن. وأسأل: أين نحن ذاهبون، وأنا أردد مع الناس بيت الشابي. بين شعرها السياسي، وشعرها الرومانسي، واهتماماتها الثقافية المتعددة، أين تسكن سعاد الصباح، وأي مكان يعطيها المكانة التي تليق بها؟ - المثقف هو الذي يخلق مكانته ومسرحه، وليس المنبر الثقافي هو الذي يخلق المثقف. أريد أن أقول إن المثقف هو بحد ذاته مؤسسة، في الوقت الذي نجد أن هموم الدولة السياسية تطغى على همومها الثقافية والتشكيلية والإبداعية. ليس هناك ثقافة من أجل الثقافة، فالمثقف يجب أن يعطي مجتمعه ما ينفعه في مواجهة الحياة، كما إن عليه أن يساهم في دفع عطاءات الآخرين إلى الأمام، فالثقافة هي ضوء الشمس الذي ينير وجدان البشرية، وعلى المثقف أن يختار بين السكن في عيون الناس، أو السكن على الهامش وليس أمامه خيار ثالث. لم أهجر الشعر عاش الشعر بياتاً شتوياً وصيفياً، مع هجمة الرواية، ثم وسائل التواصل الاجتماعي لاحقاً، كيف تعايشت أنت كشاعرة مع هذا البيات؟ - لم أهجر الشعر، لكن عصفور الشعر قد يهجرني أحياناً ويسافر إلى المجهول، ويحرق أصابعي شوقاً عندما يشعر بمعاناتي فيعود على غمامة بنفسجية تغرق أوراقي مطراً، والشعر يقف دوماً في الصفوف الأولى. وأنا من حملة رايات الشعر في هذه الصفوف. الإنسان العربي لا يستطيع العيش خارج بيت الشعر، فهو ساكنه ومسكون به، لذلك لم يكن هناك بيات للشعر. في مواقع التواصل الاجتماعي لن تجد مثلاً رواية نشرت في 140 حرفاً، لكنك ستجد آلاف الأبيات الشعرية. للرواية مكانتها، ولكل الآداب مكانها، وللشعر الصدارة، فلا تستطيع الرواية بحكم تقنيتها المعقّدة تغطية الأحداث العربية بشكل تلقائي وعفوي وسريع، لأنها تستغرق زمناً من التخمّر والنضج، في حين أن القصيدة هي عمل انفجاري آني يغطي الحدث بصورة سريعة. القصيدة هي ميراثنا الذي استطاع أن يسجل كل زوايا الحياة العربية، بينما الرواية هي فن جديد على العرب لا تستطيع الوصول إلى القارئ بسرعة وصول القصيدة. لذلك لا أظن أن التكنولوجيا ستأكل القصائد وإنما ستساهم بانتشارها. افتح مواقع التواصل الاجتماعي لتجد أن الشعر يتسيد شاشاتها. سعاد الصباح، بما تملكه من خبرة ورؤية، خبرت جيداً المشهد الثقافي العربي، من أقصاه إلى أدناه، كيف ترين هذا المشهد، وما الذي ينقصه ليكون فاعلاً؟ - المشهد الثقافي العربي مرآة الإنسان العربي محبط وضائع، فالبوصلة الثقافية مكسورة، والأوطان يكسوها الضباب. المشهد الثقافي يريد أن يخرج إلى الضوء ليصرخ بهمومه من دون خوف، فهذا كل ما يريد... ولأن المثقف مسؤول عن تفجير الأمل والفرح في صدر أمته، فلا بدّ أن يخترع الفجر في هذه العتمة، وأن يزرع الورد في الأرض الخراب. تتباين الأساليب الشعرية في قصائدك بشكل لافت، فالمفردة مختلفة وصناعة الجملة الشعرية والصورة البلاغية متفاوتة لديك، ما السر وراء هذا التفاوت؟ هل هي خاضعة لمرحلة أو تجربة أم مزاجية الشاعر؟ - أعتقد بأن قانون التطوّر لا ينطبق على الطبيعة وحدها وإنما ينطبق على الإنسان أيضاً، والشاعر الحقيقي هو مجموعة تحوّلات وانقلابات على نفسه، فإذا كنت قد غيّرت أسلوبي وأدواتي في التعبير عن نفسي فلأنني أحيا، ولأن الشاعر الذي لا يتحرّك مع الحياة من حوله يتجمّد! وعندما أتوقّف عن النموّ والتطوّر أتحوّل إلى شجرة يابسة. والاختلاف بين أعمالي المتعدّدة هو شيء طبيعي لأن كل عمل ينبع من ظرف نفسي وفكري يختلف عن ظرف العمل الآخر، فهناك قصائد الفرح، والأمل، والاستبشار، وهناك قصائد الحزن والفجيعة والوجع، وفي حالات الانكسار والحزن الكبير ترتعش أصابعنا وتتشتت أفكارنا. إن كل عمل جديد فيه شيء من الثورة والانقلاب على الذات. مع المبدعين الشباب كان لدار سعاد الصباح السبق في تشجيع المبدعين الشباب والرواد. هل ستستمر في ذلك؟ وما الخطط الجديدة؟ - ستبقى الدار تحتضن إنتاج الشباب من خلال جوائزها التي تقدمها للمبدعين وطبع نتاجاتهم المميّزة، وقد مضى على ذلك أكثر من ربع قرن، وما زلنا نستثمر في العقل، لإيماني بأن العقل العربي هو عقل ديناميكي ولاد، على رغم كل المحاولات التي تسعى لإجهاضه. كما تقوم الدار بتكريم روّاد الثقافة الأحياء وهي المبادرة الأولى في عالمنا العربي، تجسيداً لقيمة الوفاء التي أعتبرها قمّة القيم التي نحتاجها في حياتنا. كتابك «رسائل من الزمن الجميل» كاد يكون رواية وكاد يكون كتاب ذكريات، وهو أشبه بالشعر. أين تضعينه؟ - إنه سيمفونية حبّ عزفتها في أربعين رسالة من الشعر المنثور. حصولك على جائزة رفيعة وعالمية من دولة كوريا. هل يشير بشيء إلى الجهات الثقافية العربية التي لم تلتفت حتى الآن إلى سعاد الصباح؟ - الحمد لله، حصلت على التكريم في الوطن وخارجه من دول عدة وهو تكريم لوطني أيضاً، وبطاقة حب تقول لمن تعب واجتهد: إن تعبك لم يذهب سدى. كتبت عن زوجك عبدالله المبارك الكثير... أما آن لك أن تترجلي عن حزنك؟ - الحزن وردة سوداء نادرة، والفرح وردة صناعيّة لا تلبث أن تزول. كيف أترجّل عن حزني وعبدالله الغائب الحاضر فينا هو الزوج والأب وسيد البيت ورفيق الزمن الجميل. عبدالله كان جبلاً من الشهامة والفروسية والكرم والحنان الأبوي والمروءات. كيف لي أن أنساه؟ وزير الإعلام الكويتي الشيخ محمد عبدالله المبارك. ما هو شعورك بتولي ابنك هذا المنصب؟ - منطق الأمومة الذي لا يقبل النقاش ولا الجدال، فكل أمٌ تريد لأبنائها ما تراه في والدهم. وأنا أريد لأبنائي ما خبرته عن والدهم عبدالله المبارك من فروسية وشجاعة وشهامة وكرم ودفاع عن الحق، والوقوف في الصفوف الأمامية للدفاع عن الوطن. وما شعورك وابنك محمد يصعد منصة الاستجواب في مجلس الأمة الكويتي بعد شهر واحد من توليه منصبه؟ - شعور الفخر، والزهو، لثقتي بمؤهلات محمد، وخبرته وعلمه ووقاره ولإيمانه بالممارسة الديموقراطية. ومعرفته بأحكام الدستور وأحكام اللائحة والاستجواب أداة دستورية نحترمها جميعاً.