ناقش زعماء دول تكتل «البريكس» الذي يضم كلاً من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، خلال قمتهم الرابعة في نيودلهي في 29 آذار (مارس) الماضي، مجموعة من القضايا في مقدمها إعادة التوازن إلى النظام الاقتصادي العالمي، إذ أبدوا قلقهم من بطء وتيرة الإصلاحات الجارية داخل صندوق النقد الدولي، داعين إلى توفير الشفافية في مسار اختيار رئيس جديد للبنك يتوقع أن يعلن عنه في نيسان (أبريل) الجاري. وطالبوا بتجنب إحداث فائض في سيولة النظام المالي العالمي، وهو ما يلحق الضرر باقتصادات الدول الصاعدة نتيجة سرعة تدفق رأس المال في السنوات الأخيرة، منتقدين انعدام المساواة في المنظمات الدولية، وداعين، في هذا المجال، إلى إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. كما وقَّع القادة الخمسة ميثاقاً يهدف إلى تقليص الطلب على العملات القابلة للتحويل مثل الدولار في المعاملات التجارية بين بلدان «البريكس»، ويسمح بالحصول على القروض بالعملات المحلية للدول. وفي هذا الإطار قال فلاديمير ديميتريف رئيس بنك «في أي بي» أكبر بنك في روسيا إن روسيا والهند ستشرعان في إجراء تعاملاتهما التجارية بعملتيهما المحليتين في غضون ثلاث سنوات، وذلك في مسعى للانفكاك من تقلبات العملة الأميركية. ظهرت تسمية «بريك» في تشرين الثاني (نوفمبر) 2001، حين عبَّر كبير اقتصاديي البنك الاستثماري الأميركي (غولدمان ساكس) جيم أونيل للمرة الأولى، عن رأيه في أن اقتصادات البرازيل وروسيا والهند والصين ستتفوق على اقتصاد الولاياتالمتحدة الأميركية في نهاية الربع الأول من القرن ال21، وعلى اقتصادات الدول السبع الكبرى في منتصف القرن. حينها كانت تشكل القوى الأربع 8 في المئة من الاقتصاد العالمي لترتفع النسبة بسرعة بعد عشر سنوات، لتناهز الآن 20 في المئة، وصارت الصين ثاني أكبر اقتصادات العالم. واستخدم أونيل مصطلح «بريك» كرمز لانتقال ثقل الاقتصاد العالمي بعيداً من مجموعة الدول السبع الصناعية - حتى ذلك الحين - وهي: الولاياتالمتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان، باتجاه دول العالم النامي بزعامة الصين والهند والبرازيل، إضافة إلى روسيا. وبعد سبع سنوات فقط اندلعت الأزمة المالية العالمية التي أكدت افتراض أونيل، فقد تغلبت بلدان «بريك» على الركود وأصبحت تنمو بسرعة، وأصبح البعض يتنبأ بزعامة «بريك» العالمية نحو سنة 2030، فدول هذه المجموعة، تمثل مساحتها 25 في المئة من مساحة الكرة الأرضية، ويعيش فيها أكثر من 41 في المئة من سكانها، ينتجون نحو 18 في المئة من إجمالي الناتج العالمي (13.5 ترليون دولار)، وتساهم ب15 في المئة من التجارة العالمية، وتحتفظ مصارفها بما يزيد عن 40 في المئة من احتياطات النقد الأجنبي. مجموعة «بريكس» تختلف في شكل كبير عن باقي أشكال التجمعات والتحالفات والمنظمات التي شهدتها الساحة الدولية من قبل، فلا يوجد رابط معين مشترك بين الدول الخمس، سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو غيره، كما أنها لا يربطها نطاق جغرافي أو إقليمي، بل تأتي من أربع قارات مختلفة، كما أن هناك تبايناً واضحاً في درجات نموها الاقتصادي ومستوياتها الإنتاجية، وحتى المواقف السياسية بينها متباينة في شكل نسبي، فهي مجموعة محايدة تماماً بالنسبة إلى التوازنات السياسية العالمية لأنها تضم دولاً مختلفة ومتباينة إلى حدٍّ كبير في التوجهات السياسية والأنظمة الاقتصادية وتمثل توجهات عالمية مختلفة، كما أن اهتمام المجموعة يتركز في الأساس على النواحي الاقتصادية والمالية العالمية. ولا تتعرض لأية قضايا سياسية إلا إذا كانت مرتبطة بالشأن الاقتصادي العالمي من قبيل مقترحات مثل طرح عملة دولية جديدة أو إصلاح صندوق النقد والبنك الدوليين. غير أن هذه الدول الخمس بينها رابط ثقافي مهم، وهو أنها لا تنتمي إلى «دائرة الحضارة الغربية»، بل تشكل مزيجاً متميزاً من حضارات مختلفة، حيث قمة الحضارة الشرقية العريقة: الهندوسية في الهند والبوذية في الصين، والحضارة السلافية الأرثوذكسية المتميزة عن الشرق والغرب معاً في روسيا، والحضارة الغربية اللاتينية في البرازيل التي يتميز شعبها بثقافة وفنون متميزة كثيراً حتى عن الدول المحيطة بها، والحضارة الأفريقية في جنوب أفريقيا. لكن من المؤكد أن الرابط السياسي الذي يربط هذه الدول الخمس، والذي على أساسه نشأت هذه المجموعة، هو رفض الهيمنة الغربية على الاقتصاد والسياسة العالمية، هذه الهيمنة التي تسببت بإغراق الاقتصاد العالمي في أزمات يعاني الكثير من أجل الخروج منها. وعلى رغم تباين مستويات دول البريكس الخمس وإمكاناتها، إلا أن لدى كل منها ما يعوضه في النقص عن الآخر. فهذه روسيا التي تعتبر الأقل في النمو الاقتصادي مقارنة بالأربع الأخرى، نجدها الأقوى سياسياً وعسكرياً ونفوذاً في العالم، ويمكن القول إن روسيا هي رأس هذه المجموعة والصين جسدها والبقية أطرافها، بل أكثر من ذلك، يذهب البعض في واشنطن والغرب، إلى الاعتقاد بأن روسيا هي التي تهيمن على هذه المجموعة وتوجهها وفق مصالحها وطموحاتها وتطلعاتها على الساحة الدولية. وهذه بالقطع قد تكون مبالغات لا تمت إلى الواقع بصلة، وهي ربما من موروثات الحرب الباردة. وربما يؤكد انضمام جنوب أفريقيا إلى هذه المجموعة أخيراً، بطلان هذه التوقعات والمبالغات، باعتبار أنها دولة مرتبطة بالغرب تماماً في توجهاتها السياسية، وقد أيدت التحالف الغربي في ليبيا، بينما امتنعت الدول الأربع الأخرى عن التصويت على قرار مجلس الأمن. الأمل يحجب الخلافات وعلى رغم المشكلات التي تتعرض لها من إغراق سوق البرازيل بالأحذية الصينية، وجنوب أفريقيا بالملابس الصينية، وفرض الهند رسوماً على بعض السلع الصينية، ووجود خلافات بين موسكو وبكين حول تسعير النفط الروسي، فإن هناك شعوراً بالأمل إزاء توسع التجارة بين دول البريكس، حيث بلغت قيمة التبادل التجاري بين دولها عام 2011، 230 بليون دولار بزيادة 28 في المئة مقارنة بعام 2010 وهناك طموح لرفعها إلى نصف ترليون دولار في 2015. وعن هذا الطموح يقول راجيف كومار، الأمين العام لفيديرالية غرف التجارة والصناعة في الهند: «تحاول البريكس ربط خمس سفن مع بعضها بعضاً وسط الأنواء التي يعرفها الاقتصاد العالمي، وهي لذلك تسعى إلى تأمين نفسها بتعزيز التجارة بين دولها وخلق بديل يمكن الركون إليه في حال انهار الدولار الذي يتم به معظم التعاملات التجارية». وكما يقول المثل فإن «السياسة تتبع التجارة حيثما ذهبت»، بخاصة أن القوة الاقتصادية بدأت تتحول إلى الشرق في أعقاب الأزمة المالية العالمية. وقد وعت الدول الأفريقية هذا التحول في العالم ووضعت الصين في مركز متقدم ضمن أولويات سياستها الخارجية. بعد انضمام جنوب أفريقيا لمجموعة «البريك» أوائل عام 2011، أبدى جيم أونيل ملاحظة ساخرة قال فيها: «عندما وضعت مصطلح «بريك» لم أكن أتوقع أن يتكون «تكتل سياسي» من الدول الأربع نتيجة لذلك». إذ كان أونيل واثقاً بأن «بريك» لن تتطور حتى إلى مجرد تكتل اقتصادي أو تجاري على شاكلة الاتحاد الأوروبي (يضم 27 دولة) أو تجمع جنوب شرق آسيا «الآسيان» (يضم 10 دول). لكن بتوسع «بريك» لتصبح خمس دول، فإن المجموعة قد تكون في طريقها إلى تكوين «تكتل سياسي» على شاكلة الاتحاد الأوروبي وتجمع «الآسيان» ك «خطوة جانبية» للتعاون التجاري والاقتصادي بين الدول الخمس. ويبدو أن عملية ضم جنوب أفريقيا خضعت لاعتبارات سياسية وجيوبوليتكية أكثر منها اقتصادية أو تجارية، فكوريا الجنوبية والمكسيك وتركيا تصنف ضمن الاقتصادات الصاعدة، وكانت تملك مشروعية أكبر في الانضمام إلى «بريك» مقارنة بجنوب أفريقيا. فالدول الثلاث تشارك كل منها بنسبة 1 في المئة من الاقتصاد العالمي ( يبلغ إجمالي الناتج المحلي للمكسيك 875 بليون دولار وكوريا الجنوبية 830 بليون دولار وتركيا 615 بليون دولار). لكن الصين رأت ضرورة ضم دولة أفريقية مهمة إلى المجموعة باعتبار أن الصين هي الشريك التجاري الأول لجنوب أفريقيا ولتكون بريتوريا هي بوابة المجموعة إلى قارة أفريقيا في ظل السباق العالمي المحموم، الأميركي – الصيني تحديداً - على النفوذ والتجارة في القارة. هذا علاوة على أن جنوب أفريقيا تتمتع بأهمية استراتيجية كبيرة، فهي تشرف على المحيطين: الأطلسي غرباً والهندي شرقاً من ناحية الجنوب عبر طريق رأس الرجاء الصالح. ولم تكن الحسابات السياسية والاستراتيجية غائبة عن قمة «بريكس» الأخيرة. فقد حرصت المجموعة على إظهار وحدة صفها في شأن المسائل الدولية الكبرى وإثبات وزنها المتزايد في العالم، بخاصة في شأن ما يجري في المنطقة العربية والشرق الأوسط عموماً. إذ دعا زعماء تكتل «البريكس»، إلى وقف الحديث عن أي تدخل عسكري ضد سورية أو إيران، مؤكدين أن أي تحرك انفرادي ضد إيران من شأنه التأثير في تجارتهم ونموهم الاقتصادي. وعن هذا الموضوع قال رئيس الوزراء الهندي، مانموهان سينغ: «علينا تجنب عدم الاستقرار السياسي الذي يضر بأسواق الطاقة الدولية ويؤثر سلباً في تدفق التجارة العالمية، وقد اتفقنا على أن حلاً دائماً للمشاكل في سورية وإيران لن يتم إلا من طريق الحوار». وصرحت رئيسة البرازيل ديلما روسيف بأنها لا تدعم أية سياسة قائمة على فرض الحصار وتصعيد الخطاب الداعي إلى العنف، داعية إلى «فتح باب التوصل إلى حل متوافق عليه مع إيران». وفي إشارة مبطنة إلى الولاياتالمتحدة قال وزير الخارجية الصيني، تشين ديمينج عشية قمة نيودلهي، إن بلاده لن تسمح لقوانين داخلية لبلد ما بالوقوف في وجه التجارة مع إيران. * كاتب مصري