من جملة سلبيات التأصيل الشرعي الخاطئ، احتمال التناقض والاضطراب من متبعه في سلوكه وأفكاره؛ لأن التأصيل الخاطئ سيظهر عواره حتماً يوماً ما، ومن يتعصّب لرأيه، ولم يمرِّن نفسه على التراجع عن قوله إذا ثبت خطؤه وتأكد؛ سيضطرب موقفه ويتناقض مع أدبيات البحث العلمي المحايدة! وحين تحكم العاطفة الجماهيرية العلم وتهيمن عليه أكثر مما يلزم؛ يتخلف البحث الحر، ويُعزل المنهج النقدي والتحليلي غير المؤدلج، وعليه يصبح المعيار هو الواقع المتسلط، واتباع الرموز (الأعلى صوتاً) دون محاولة تفهّم مستندهم وحجتهم؛ فمن لم ينضوِ تحت راية (بشتٍ، أو كاتب غربي) لم ينفعه أي شيء آخر في الإقناع برأيه حتى لو قام بسرد الأدلة والبراهين كافة التي تؤيد قوله! إن العاطفة الجماهيرية أيًّاً كانت إذا غدت في جناح.. والتقليد في جناح.. استطال بذلك الجمهور على الحقيقة وكادوا طمسها وربما تحويلها عن مرادها. وذات الجمهور الذي تربى على تحييد المنطق والعقل سيرتد على تلك الفئة (يوماً ما) التي كانت تقوده بجناحين باليين (العاطفة والتقليد) لا يستقلان بالبناء؛ وذلك حينما يسمع صوتاً لم يعتد عليه، أو يعرف علماً وتأصيلاً لم يكن في حسبانه أنه قيد الكتمان سنين عدداً..!وسيحتار هذا الجمهور أكثر عندما يُبصر تلك القمم (التي طالما مجدها وتقوّى باسمها) تسّاقط أمام ناظريه! وتأتي في يومها الحاضر، ما كانت تستنكره في غدها الغابر!! وعليه؛ فلا تتعجب إذا سمعت من ينهال على تلك القمم بحق تارة، وبالباطل تارات بالنقد والتشويه والازدراء..!! والمجتمع لا يستوعب فكرة التحولات وتغيّر الاجتهاد، وإن كان العالم معذوراً أمام خالقه؛ إلا أن عليه مسؤولية تربية المجتمع، وإقناعه بالعلم والدليل، لا بالتبعية والتقليد.وفي هذا السياق نسأل: هل كان التأصيل الشرعي صحيحاً لمفاهيم متعددة طال الجدل فيها، وأريق المداد من أجلها، وظُلم أقوام بسبب تأييدها، وبُخسوا حقهم المعرفي؛ لأجل اختلافهم مع آخرين لا يقلون عنهم علما ومعرفة وبحثاً، بل ربما فاقوهم في ذلك كله؟! ليسأل المرء نفسه هذا السؤال دوماً في هذه الساحة الصاخبة التي تموج بالأفكار والنظريات.فالباحث وطالب المعرفة يقبح به أن يجعل لسلطة الجمهور والعاطفة حقاً ورأياً في تأصيل أيّ مسألة شرعية، أو فكرية تنموية؛ ولا سيّما تلك التي تساوت فيها الأدلة قوة وضعفاً، أو كان الاستدلال فيها من قبيل الظني المتشابه لا اليقيني المحكم.وهذا يتأكد في حق البحث العلمي الأكاديمي الذي بين طلبة العلم في محافل التدريس؛ فمن لم يستطع الخلاف مع شيخه أو مشرفه ومناقشته، لماذا يكتب بحثاً وهو لا يستطيع الاستقلال بأقل ما يملكه وهو رأيه؟! وإذا كان الجمهور يُراعى في طرح وذكر بعض الأقوال التي ربما تفوق قدرتهم الذهنية والعلمية؛ فهذا يتقيّد بالنشر علناً لا بالمجالس التي يُزعم أنها للعلم وطلبته..! وفي هذا الزمن ربما لا فائدة في الإسرار بأي شيء من العلم؛ لكثرة القنوات والوسائل التي تبث كل رأي؛ فأيهما أولى أن يسمع العامي والمتعلم القول، والرأي المخالف له مع دليله، ويسمع الترجيح من شيخه ومعلمه.. أم يسمع ما يشبه السب على ذاك القول الذي ربما سمع شيخاً آخر يقول به وبأدلة لا تقل قوة عن تلك؟! وربما أكون متطرفاً إذا قلت: إن المجتمع أحياناً يمارس التجهيل على الفرد بإقناعه قسراً دون محاولة تفهّم الرأي المخالف له ولو كان ذلك الرأي محسوباً في غالب الأحيان على التوجه الشرعي والمذهبي! فسلطة الجمهور لا تصلح أن تكون مستنداً للتوجيه والتصحيح ابتداء بحال من الأحوال؛ لأنها لا تكفي للإقناع الراسخ، فربما يتحول المرء لأي فكر مع الجمهور متى غيّر المجتمع اتجاهاته سواء كان ذلك قناعة أو تقليداً! ولو كان رأيه مبنيًّاً على العلم والعقل؛ لتمسك به وقاتل دونه وإن خالفه الجمهور. فالمحصّل: لا، لسلطة الجمهور والأسماء.. نعم لسلطة المنطق والدليل المعتبر شرعيًّاً كان أو عقليًّاً. * باحث شرعي.