يراودني من حين لآخر سؤال عن العوائق التي حالت بين التكوين الفلسفي الذي تلقيناه في الجامعة خلال الستينات من القرن الماضي، وبين ما يمكن أن نطلق عليه حداثة فلسفية. لا يتعلق الأمر في طبيعة الحال بمحاكمة أساتذتنا، والمناهل التي غرفوا منها، والطرق التي انتهجوها لتبيان تهاونهم أو حدود معارفهم. فقد اشتهر معظمهم بالمثابرة والضبط وحب العمل والتفاني فيه، بل إن أغلبهم كان يتعلم ليعلم، فكان عليه أن يكوّن الطلبة ويبني القسم ويؤسس الجامعة في الوقت ذاته. غير أن هذا لا يمنعنا من أن نتساءل، لا أقول عن القصور، وإنما الحدود التي طبعت حياتنا الجامعية، والعوائق التي حالت ربما بيننا وبين الوقوف على معالم تلك الحداثة. ولا شك في أن اللجوء إلى منهج المقارنة وقياس ما عشناه على ما عرفته إحدى الجامعات الأوروبية من شأنه أن يسلط بعض الأضواء على ذلك، مع مراعاة الفارق بطبيعة الحال. ولا بأس في أن نستعين هنا بما كان كتبه دولوز عن سارتر بعدما رفض هذا الأخير جائزة نوبل، حيث يصف الجو العام الذي تلقى فيه الفلسفة عن أساتذته مبيّناً ما كان لسارتر من أهمية في ذلك السياق. يميز دولوز بين ما يطلق عليهم أساتذة عموميين، وبين ما يدعوهم المعلمين. المعلمون هم أولئك الذين يفرضون جدة جذرية، إنهم أولئك الذين يجدون «طرق التفكير المناسبة لحداثتنا». والطلبة لا يستمعون جيداً الى أساتذتهم إلا حين يكون لهم أيضاً معلمون آخرون. سارتر لم يكن أستاذ جامعة، لكنه كان معلم جيل. معه كان يأتي كل ما هو جديد: الموضوعات الجديدة، الأسلوب الجديد، سبل أخرى للمشاكسة والجدال... لكن الجدة المطلقة التي كان يجسدها هي أنه كان لا يتكلم إلا باسمه الخاص، ولم يكن ليمثل شيئاً. ربما يسمح لنا ما يقوله دولوز عن معلمه هنا بتشخيص الوضع الذي تلقينا فيه نحن دروسنا الفلسفية، ويوضح لنا أن ما كان يعوز جامعاتنا وأقسامها الفلسفية أساساً ليس مقررات مغايرة، ولا أساتذة أكثر كفاءة وتضحية، وإنما معلمون أو معلم يستمع إلى دروس الأساتذة بأذنيه. قد يُعترض علينا بأن سارتر نفسه لم يكن غائباً عن جامعاتنا، وأن عوامل متعددة جعلته يدخل أقسامنا، بل مجلاتنا ومقرراتنا الدراسية. إلا أنه فضلاً عن أن سارتر لم يقرأ عندنا فيلسوفاً، فإضافة إلى محاولاته الأولى حول تعالي الأنا والخيالي والتخيل ونظرية الانفعال، فإن كتابيه «الوجود والعدم» و «نقد العقل الجدلي» لم يجدا صدى كبيراً عندنا، وربما لم تتجاوز قراءاتنا لفلسفته محاضرته العمومية عن الوجودية نزعة انسانية، ومقدمة كتابه في الانفعال، ومقدمة نقد العقل الجدلي التي اشتهرت بقضية منهج، فضلاً عن ذلك، فهو لم يحضر معلماً، إذ سرعان ما دُجّن داخل نظرة تقليدية في جو جامعي يفتقر الى تقاليد. ذلك أن ما لم تستطع جامعاتنا الفتية أن تأخذه عن سارتر هو غضبته الفلسفية التي لم تكن نوعاً من تجاوز للفلسفة أو إعلان موتها على غرار ما سيقال في ما بعد، وإنما إرساء نوع من اللافلسفة يخرج الفلسفة من أسوار الجامعة ويبعدها من «كراسي الدولة». * كاتب مغربي