تستطيع أن تخدع بعض الناس بعض الوقت ولكنك لن تستطيع خداع كل الناس كل الوقت! هذا المبدأ لا ينطبق على الشعوب العربية فقد خدعت على مدى قرن كامل وانساقت وراء الشعارات البراقة والمبادئ الزائفة و»عبدت زعامات» صنمية مارست سياسات شيطانية دمرت البلاد وأفقرت العباد وشردت من شردت وقتلت من قتلت وسجنت من سجنت وأعادت الأمة إلى عصور الجاهلية. والآن بعد «تسونامي» الربيع العربي وكشف المستور وفتح الستارة على فضائح أنظمة وارتكابات قيادات يطرح السؤال الملح والضروري للخروج من عنق الزجاجة والبدء بعملية الإصلاح والترميم وإزالة الأخطاء ومسح الخطايا، وهو: هل حان وقت بدء محاكمة عادلة وشفافة ونزيهة لمرحلة ممارسة السياسات الشيطانية التي قامت على الغش والخداع والكذب على ذقون الشعوب وتضليلها وتدجينها وشق صفوفها وضرب وحدتها وإثارة الفتن والقلاقل والحروب الأهلية والفساد والإفساد وإشاعة أشكال النفاق والانتهازية ونهب ثروات الشعوب واستنزاف طاقاتها وضرب كل أسس قوتها الذاتية التي كان يمكن أن تجابه العدو الصهيوني وتواجه كل أشكال الهيمنة والتدخلات الأجنبية وبناء سد منيع في وجه المطامع الأجنبية؟ لا مجال للتسرع في الإجابة على هذا السؤال المحوري لأن الربيع ما زال في بداياته والشعوب لم تعرف بعد خيره من شره ولم تتأكد من أن القادم إليها أفضل وأشرف وأكثر صدقية ووطنية وإخلاصاً، بل هي ما زالت قلقة على مستقبلها وخائفة من أن يكون الآتي أعظم وأن تكون قد استبدلت نظاماً بنظام ووجوهاً بوجوه تعود بعدها كل حليمة منها إلى عادتها القديمة ونصير «كأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا» كما يقول المثل. ورغم التحفظ والحذر لا بد من وضع الحقائق على الطاولة، وكشف الأسرار ونشر الوثائق وتعميم الحقائق حتى يعرف الجميع ما لهم وما عليهم ويدركوا تماماً كم كلفتهم غفلتهم وكم دفعوا أثماناً لسذاجتهم وتشبههم بالفراشة التي تنجذب نحو الضوء فتحترق بناره، أو كالقط الذي يلحس المبرد. ففي فترة الستينات والسبعينات نشرت مذكرات ووثائق وكتب تتحدث عن الأحداث العربية المتأججة بوصفها محركة من قبل الاستخبارات الأجنبية في مجملها ومن بينها كتاب «لعبة الأمم» لعميل الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) السابق مايلز كوبلاند الذي ألحقه بكتاب آخر هو «حبال الرمل» سرد فيه روايات ووقائع عن دور الاستخبارات في الانقلابات والثورات والمتغيرات واستخدام أدوات عربية من قيادات ورموز وأحزاب وفصائل في تنفيذ هذه المخططات الجهنمية التي دمرت الأمة وحطمت الأوطان وأزهقت الأرواح واستنزفت الطاقات وأفقرت الشعوب وعطلت تقدمها ومعها أحلامها وآمالها بغد مشرق، أو على الأقل مستقر وآمن. ولم يصدق الكثيرون ما جاء في هذه المذكرات واعتبروها دساً من الاستخبارات الأميركية ومحاولة لزعزعة الثقة بالأنظمة... ثم جاءت الوثائق الرسمية السرية التي يسمح بنشرها بعد 25 سنة من الأحداث العالمية من قبل الدول الغربية فإذا بها تكشف عن جوانب أخرى من الحقائق، أو المعطيات التي تطرح ألف علامة استفهام وتعجب! وأيضاً لم تأخذ هذه الوثائق حيزاً لدى الشعوب ومرت مرور الكرام على أساس أنها صادرة عن جهات مغرضة ودول إمبريالية وصهيونية معادية! وسكت الإعلام العربي عن القضية لأن «العين لا تقاوم المخرز» ولأن الأنظمة قادرة على إسكات أي صوت يخرج داعياً للتحقيق والتأكد أو التبيان أو النفي ودحض ما جاء في الوثائق وخوفاً من اتهام من يتحدث عنها بأنه يروج لدعايات غربية مغرضة. واليوم، وبعد الربيع العربي والأحداث المتوالية في دول عربية عدة وقعت الوثائق في أيدي الشعوب و»أصبحت الفضيحة بجلاجل» كما يقول المثل، وزاد الطين بلة ما كشفه قادة ذلك الزمان الذي مورست فيه السياسات الشيطانية من أسرار وخبايا تقلب كل شيء على عقب وتؤكد من هو الوطني ومن هو العميل ومن هو المؤمن ومن هو الكافر ومن هو الصادق ومن هو الخائن. ولعل ما كشفه الرجل الثاني في النظام الليبي في عهد معمر القذافي قبل أن ينشق عنه الرائد عبدالسلام جلود للزميل غسان شربل رئيس تحرير «الحياة» ما يلخص الحقائق برمتها عندما قال إن القذافي «كان مريضاً بجنون العظمة وحوّل النفاق إلى نهج وأسلوب عيش، لقد دمر ليبيا ودمر الشعب الليبي أخلاقياً ونفسياً ومعنوياً واقتصادياً واجتماعياً ودمر الروح الوطنية والنسيج الاجتماعي». وهكذا شهد شاهد من أهله ولم يعد هناك مجال للتشكيك أو النفي والإنكار فالوثائق صادرة عن أجهزة الاستخبارات التي كانت تهيمن على البلاد أو عن محاضر رسمية للقاءات واجتماعات أو على لسان قادة ذلك الزمان الغابر وأركان الأنظمة البائدة وفي قاعة المحاكمات ومستمسكاتها وأدلتها الاتهامية وليس من جهات أجنبية. وفي عرض سريع لما تبين بالأدلة الدامغة يمكن تحديد مسار الأمور خلال عقود العار والدمار واكتشاف حقائق الرموز التي أسقطت الأقنعة عن وجوهها لتكتشف الشعوب زيف دعوات أصحابها وخداعهم لها طوال هذه المدة التي تحكموا بهم خلالها وهم يدعون الشرف والنزاهة والوطنية والقومية والصدق والإخلاص ويرتدون ثوب العفة الزائف وهم أكثر الناس خسة وخيانة وعهراً. فمنذ بدايات القرن الماضي حتى يومنا هذا عشنا نكبات وهزائم واضطرابات ومسلسلات الحروب الأهلية والفتن الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية التي كانت تلقى فيها الاتهامات جزافاً وتتراشق الأنظمة بها وأكثر الناس كأنهم صم بكم عمي لا يعمهون ويصفقون لهذا الزعيم أو ذاك ويسيرون على غير هدى من دون أن يتبينوا أنهم يسوقونهم إلى المسالخ أو يقودونهم إلى الخراب. من نكبة 1948 في فلسطين وهزيمة العرب أمام الصهيونية الغاشمة والقوى الداعمة لها والأحداث تتوالى والصراعات تفرخ حروباً لتتبين بعدها أن الأصابع الأجنبية وراءها من أن ننكر أن الأدوات عربية ترتدي أقنعة زائفة تدعي الدفاع عن الأمة وتتاجر بشجاعة فلسطين ودماء الفلسطينيين والشعوب العربية الأخرى. انقلابات واضطرابات وهزائم وقطيعة واغتيالات وخلافات وصلت إلى حد احتلال بلد عربي لبلد آخر كما جرى بالنسبة إلى العراق في عهد صدام حسين واحتلال الكويت عام 1990 ثم فتحه الأبواب أمام القوات الأميركية وصولاً إلى احتلال العراق وتدميره وترشيحه للتقسيم، ونتبين من الوثائق السرية أن كل ما جرى كان مؤامرة من قبل النظام أولاً ثم من قبل من سهل الاحتلال وأمن له الوصول إلى بغداد ثم تربع على عرش الحكم فيها. وبعد أحداث الربيع العربي اكتشفنا المزيد من الوقائع من بينها تمويل حرب لبنان عام 1975 وتوزيع الدعم على مختلف أطرافها ثم خطف الإمام موسى الصدر ورفيقيه للإيقاع بين الشيعة والسنة والتآمر على منظمة التحرير الفلسطينية وشق صفوفها وتشجيع التمرد ضدها ودعم المنظمات الإرهابية وتأمين الدعم والمأوى لأبي نضال في عملياته وتنقلاته بين عاصمة وأخرى إلى أن انتهى به المطاف منحوراً من قبل نظام صدام حسين حتى يدفن أسراره معه. وتمضي المؤامرات من محاولة اغتيال الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى محاولة اغتيال الملك الراحل حسين إلى ضرب الوحدة العربية عبر ادعاء قيادتها وطعن الشعب الفلسطيني والهجوم المسلح على تونس ودعم المؤامرتين ضد الملك الحسن الثاني عاهل المغرب الراحل ودعم التمرد في جنوب السودان بقيادة جون قرنق لتلتقي المطامع الليبية مع المطامع الصهيونية ثم مع النظام السوداني الذي أدت سياساته الخاطئة إلى تقسيم السودان وفصل الجنوب إضافة إلى الدعم بالمال والأسلحة لدارفور وتمرد الشرق وصولاً إلى تمويل حروب أفريقيا من تشاد إلى أوغندا. وهذا غيض من فيض الأخطاء والخطايا الناجمة عن السياسات الشيطانية من حروب اليمن وجر الجيش المصري إلى الفخ وحروب محاولات الانفصال ودعم إيران بالصواريخ والأسلحة في حربها ضد العراق إلى دعم الأكراد في حروبهم بدلاً من مساعدتهم على نضالهم السلمي إلى دعم الإرهاب، ما أدى إلى احتلال أفغانستان والعراق والهيمنة على المنطقة نتيجة عمل طائش في نيويورك وواشنطن أساء إلى العرب والمسلمين ودفع ثمنه أسامة بن لادن قتيلاً كما لاقى المصير نفسه صدام حسين ومعمر القذافي لتدفن معهم صفحات من سياساتهم الشيطانية. وأختم مع سؤال البداية: هل تعلمنا من الدروس والعبر؟ وهل ستجري محاكمة واعية لمرحلة سوداء من تاريخنا؟ وهل وعت الشعوب الحقائق حتى لا تنخدع مرة أخرى وتساق إلى حتفها؟ ومن يضمن أن الأحداث الراهنة ليست فصلاً من فصول هذه المؤامرة الجهنمية؟ إنه سؤال مصيري يتطلب وعياً وحكمة وشفافية وإشاعة ثقافة المحاسبة والمصارحة والحكم على الأفعال وليس على الأقوال، بانتظار وثائق سرية تكشف المزيد من خيبتنا وسذاجتنا! * كاتب عربي