في التقاليد والعادات والموروثات الشعبية، درجت العادة على كسر جرة وراء ضيف ثقيل الظل ومزعج وجالب للنحس، حتى لا يعود مرة ثانية وتعود معه همومه وأضراره ومضايقاته بعد مسح أثر عدوانه على البيت وأهله. وها نحن نودع اليوم عاماً مثقلاً بالهموم والشجون والآلام ولا تكفينا معه كل جرار وخوابي العالم لكي يكفينا شره ونضمن عدم تكرار أحداثه ومآسيه واخطاره وكل ما حمله للعرب من مشاكل وأزمات لم تنته فصولاً. نودع العام 2010 وأيدينا على قلوبنا، لأن بلوغه يومه الأخير لا يعني اغلاق صفحاته السوداء ولا التخلص من اعباء وآثار بصماته الإجرامية، بل مجرد ترحيل أزمات وهموم ومشاكل وأشجان، فالملفات الساخنة ستبقى مفتوحة، والجراح العميقة ما زالت نازفة، والأزمات الكبرى والصغرى ستظل عالقة حتى إشعار آخر. ومن يستعرض أحداث العام المنصرم من المحيط إلى الخليج وعلى امتداد العالم، لا يجد سوى حروب وأزمات ومآس أكبر منها تؤدي إلى نبش القبور وفتح الجراح ورش الملح عليها وإثارة العصبيات والخلافات والفتن الطائفية والمذهبية والعرقية والاجتماعية، في ظل تجاهل أنين المواطن المسكين الرازح تحت مطرقة الأزمات وسندان الفقر والحاجة والبطالة وكل ما يتعلق بحياته اليومية وحاجاته ولقمة عيش أطفاله. عنف وقتل ودمار وتهديدات بالويل والثبور وعظائم الأمور وتحديات داخلية وخارجية في جانب من جوانب عناوين أحداث العام المنصرم يقابلها جانب مظلم آخر لعناوين تتمثل في استشراء آفة الفساد وحالات الهدر والنهب واللامبالاة والإهمال الكامل لمعاناة المواطنين في شتى المجالات وسط موجة غلاء لا مثيل لها وحالات جفاف مدمرة كأنها تمثل الغضب الإلهي على كل ما يُرتكَب من موبقات. نبدأ في العناوين بأوضاع السودان، الذي يقف على قاب قوسين وأدنى من خطر الانفصال والتقسيم، ومن ثم الحروب المتعددة الوجوه والأسباب والدوافع والغايات. فقد كان من المنتظر أن تسارع الحكومة إلى حل المشاكل المستعصية التي تصيب البلاد بالشلل، وتوقف نزيف الدم من الحروب العبثية التي امتدت على مساحة البلاد الواسعة الأرجاء، ولا سيما في دارفور التي أودت حربها بحياة عشرات الآلاف وشردت مئات الآلاف من الإخوة في الدين، بين عرب وافارقة، وحكومة لا تعرف سوى لغة السلاح، ومن ثم تجهل أصول استخدامه وتفشل في «غزوات» فرض الأمن والاستقرار. وبدلاً من فتح نوافذ الأمل، نجحت التدخلات الأجنبية والمؤامرات الخبيثة والأدوات الداخلية في جر السودان إلى استفتاء قسري سيؤدي حكماً إلى فصل الجنوب وإكمال فصول المؤامرة في سنين قادمة. لقد كان العام 2010 عاماً حالك السواد على السودان، ولكن الآتي أعظم. كما كان 2010 حالك السواد على دول عربية أخرى، مثل اليمن، الذي عانى الأمرّين من حروب مماثلة تكاد تدمر الأخضر واليابس وتحوّل ما كان يسمى باليمن السعيد إلى أتعس بلد في العالم. وكما في السودان وغير السودان، فإن التدخلات الأجنبية نجحت في فتح ثغرات في الجدار اليمني، بدأت بحرب الحوثيين وتمردهم على الحكومة المركزية، التي اتهمتهم بدورها بالعمالة للخارج، ولإيران بالذات، ثم تواصلت مع «غزوات القاعدة»، التي حصدت أرواح المئات من المواطنين ودمرت البنى التحتية ولم تنته فصولاً بعد، كما في جراح مفتوحة حتى إشعار آخر في الجنوب، وسط تجدد الدعوات للانفصال عن الشمال من قِبَل ما يسمى ب «الحراك الجنوبي»، الذي أخذ الراية من اليساريين والقوميين الجنوبيين الذين قادوا حرب الانفصال الدامية عام 1995. ونمضي مع سواد ليل العرب في أحداث عام 2010 على «بساط ريح» وهمي لم نعد نمتلك في خيالنا سواه للتواصل العربي-العربي، فنصل إلى العراق، الذي شهد أخطر عمليات ارهابية أودت بحياة الألوف من أبناء الشعب العراقي الكريم، من نساء وأطفال ورجال وشيوخ ابرياء، على يد فئة إجرامية ارهابية لا تملك ذرة واحدة من الضمير والشرف والوطنية، خاصة أن معظم عملياتها جرت ضد المدنيين العراقيين، ولم نشهد عملية واحدة ضد قوات الإحتلال، ما يدفعنا للحيرة وطرح اسئلة كثيرة عن الدوافع والغايات والجهات التي تقف وراءها. سياسياً كان العام المنصرم عام الخيبة والقرف من أساليب ووسائل القوى السياسية وتكالبها على السلطة، ومن التدخلات الأجنبية السافرة في كل مفصل من مفاصل العراق ومناحي حياته وقضاياه المصيرية. الحدث الإيجابي الوحيد تمثل في إجراء الانتخابات العامة بسلام مع الحد الأدنى من المصداقية والشفافية المقبولة على مضض، لكن سرعان ما مُسحت آثاره مع أزمات تشكيل الحكومة لتزيد من حجم الخيبة بعد أن انتهى بها المطاف إلى تقاسم الحصص، أو «المحاصصة» البغيضة، بأسلوب فج يبقي النار تحت الرماد ويفتح الباب أمام كل الاحتمالات الواردة، خاصةً أن الحل فرض فرضاً بتوافقات وصفقات خارجية عملت على إحلال هدنة وتهدئة حتى إشعار آخر. إلا أن الأمل الوحيد المتبقي للعراقيين ليخرجوا من النفق المظلم يتمثل في الاستجابة لمبادرة الملك عبدالله بن عبد العزيز ودعوته جميع الفصائل والأحزاب إلى لقاء سلام ومحبة في السعودية. أما لبنان 2010، فحدث عنه ولا حرج، فقد تحول رهينةَ الحسابات الضيقة، ويعيش حالة شلل تام رمت بحاجات المواطنين الملحّة وشكاويهم من الأوضاع الصعبة وموجات الغلاء الفاحش جانباً، لتحصر عملها بالبحث عن مخارج الأزمات المتراكمة وراء درء خطر فتنة مدمرة تبدأ بين السنّة والشيعة وتمتد إلى كل أرجاء لبنان ومنه إلى المحيطين العربي والإسلامي. فقد كان الأمل كبيراً بأن ينتقل لبنان من حالة الفوضى والغموض والخوف والقلق إلى مرحلة الاستقرار والأمل والأمن والأمان والاطمئنان إلى مستقبل زاهر بعد الانتخابات العامة وتشكيل حكومة ما يسمى ب «الوحدة الوطنية» أو «الوفاق الوطني»، واندفعت مئات الآلاف من السياح والمغتربين إلى ربوعه، ولكن الآمال خابت بعد صعود ملف المحكمة الدولية إلى الواجهة وتصدي «حزب الله» لما يقال إنه اتهام لبعض أفراده بالمشاركة في عملية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وكان الأمل كبيراً بأن تقفَل ملفات العلاقات السورية-اللبنانية والخلافات الداخلية، للالتفات إلى قضايا الناس، خاصة بعد كسر الجليد في زيارة الرئيس سعد الحريري لسورية واجتماعاته مع الرئيس بشار الأسد، ثم في الزيارة التاريخية لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبدالعزيز للبنان ولقائه مع الرئيس ميشال سليمان في قمة أنعشت آمال السلام والوفاق، قبل أن تنتكس مجدداً وتسود أجواء الخوف من تجدد الفتنة المذهبية والحرب الأهلية وصولاً إلى حرب اسرائيلية جديدة على لبنان. أما القضية الرئيسية التي تحولت بكل أسف إلى قضية ثانوية وهامشية، فقد مرت بحالة مد وجزر وبدأت في مطلع العام بانتعاش الأمل ببدء المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية برعاية أميركية، وبدعم شخصي من الرئيس باراك اوباما، ثم مر شهر بعد الآخر من دون جدوى، بسبب المماطلة والمناورات الإسرائيلية، والإصرار على بناء المستعمرات الاستيطانية، واستمرار مؤامرة تهويد القدس بالكامل، لتصبح المبادرة بلا جدوى، خاصة بعد الصفعة التي تلقاها الرئيس الأميركي في الانتخابات النصفية وعودة المحافظين الجدد والمتصهينين إلى الإمساك بمفاصل الكونغرس والسياستين الخارجية والداخلية. أما الأمل الآخر الذي انتعش ثم انتكس في عام 2010، فكان يصبو إلى مصالحة فلسطينية-فلسطينية لإنهاء الوضع المخزي والمؤسف، وإعادة اللحمة بين الضفة المحتلة والقطاع المنكوب، فقد آلت كل المحاولات إلى الفشل، على أمل أن تستأنف المفاوضات بوساطة عربية قريباً. والوضع نفسه ينطبق على الصومال وأفغانستان وأجزاء أخرى من العالم العربي والإسلامي، مع ازدياد حالة التوتر والاحتقان بين المغرب والجزائر بشأن الصحراء الغربية، وفشل القمة العربية في تحقيق الحد الأدنى من الأمل والتقريب بين أبناء الأمة الواحدة وإصلاح الجامعة العربية، ثم في الفشل المتمادي في حل مشاكل الناس والتخفيف من أعباء الأزمة الاقتصادية التي تنهش لحومهم وتوصلهم إلى حافة اليأس. كل هذا يؤكد العودة إلى العنوان الرئيسي، وهو أن العرب يودعون عاماً جديداً من تاريخهم لكنهم لا يودعون همومهم وشجونهم، بل يرحّلونها عاماً بعد عام ويدفعون أثماناً باهظة، لعدم قدرتهم على إيجاد حلول جذرية لأزماتهم ومشاكلهم، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. * كاتب عربي