في فرنسا، تجري مداهمة من يفترض أنهم «إرهابيون» تحت أضواء كاميرات التلفزيون! ولهذه الأفلام التي تبث فوراً أن تأخذ مكان مسلسلات «الاكشن»، لأنها أكثر إثارة وتطابق «تلفزيون الواقع» الذي غسل العقول. ولأن ال «لايف» يحمل إمكان تفلت السياق المقرر والمفاجآت. إلا إذا... كان الأمر مضبوطاً سلفاً أكثر مما هو في أستديوات التصوير، فيجعل السؤال عن مقدار الافتعال والتركيب مشروعاً تماماً. أو أنه من المرغوب فيه وقوع حدث غير متوقع لأنه سيرفع منسوب التشويق، وواقعية إن لم نقل صدقية الشريط الذي يصور. أو (ثالثة)، إذا كان مثل هذا الاستطراد الدرامي مقرراً أصلاً في السيناريو حتى يعزز مفعول الفعل: سيرى الفرنسيون بأم أعينهم كم أن رجال القوات الخاصة هؤلاء متفانون في خدمتهم والذود عنهم. وسيمنحون ثقتهم لرئيسهم، بل لرؤسائهم: وزير الداخلية، كلود غيان الذي بدأ حياته في تنظيمات اليمين المتطرف، مثله مثل معظم الرجال المحيطين بساركوزي، والذي لا يتورع، كما أخيراً، عن ترتيب الحضارات وفق «تحضّرها»، واضعاً على رأسها بالطبع الحضارة الغربية، وفياً في هذا للإرث الاستعماري الذي كان منظِّروه حتى الامس يقولون كلاماً أفدح، ولم يكونوا يجدون غضاضة في التوفيق بين العنصرية وبين قيم الحداثة. بل إن مفهوم العنصرية لم يكن مذموماً أبداً. وغيان يجير شعبيته المأمولة لبيت القصيد من كل هذه الحركات، السيد ساركوزي نفسه الذي تحول معلّقاً على الشرائط المصورة تلك، مستخدماً إياها لحمل رسالته: الحرب على المهاجرين بدلاً من الحرب على الفقر الزاحف على فرنسا. تجسيد الكره والنقمة على هؤلاء، والاخافة منهم لطلب الحماية وارتضاء الاجراءات البوليسية، لخفض درجة التوقعات والمطالبات، للانشغال عنها. ومن اللافت أن رئيس الجمهورية المرشح لخلافة نفسه اشتبك بعنف هذا الاسبوع مع النقابات العمالية الفرنسية التي لا يعرف عنها الجنوح الثوري. ورغم ذلك، لم يعد يطيق مطالباتها، ويتوعدها (لا كلمة أخرى لوصف موقفه). كل ذلك مفهوم. فساركوزي لا يكف عن التراجع في استطلاعات الرأي حول اتجاهات التصويت، رغم أنه ينازل شخصاً ضعيفاً، كفرنسوا هولاند مرشح الحزب الاشتراكي: لا يجيد الخطابة والاقناع، فاقد أي كاريزما، والأهم أنه لا يملك - هو وحزبه - منهجاً فعلياً آخر، أو مختلفاً، عن منهج الليبرالية الفجة التي يمثلها ساركوزي. يكاد البرنامجان يتطابقان في العمق ويختلفان في الشكل والاسلوب، قاصرين معاً عن الاجابة عن تحديات الازمة الاقتصادية والاجتماعية المرعبة التي تعصف بفرنسا وبالعالم، محتمييَن خلف صراعهما على تدابير جزئية، لا يتجاوزها أفقهما. تساءل الجميع عن الاسلوب الذي سيعتمده ساركوزي لإطالة أمد «أثر عملية محمد مراح» التي عرف في اعقابها بعض الصعود في الاستطلاعات. فوجدها! سيكلف رجاله عملية دهم او اثنتين كل بضعة أيام، فيخرج شباناً من أحياء المهاجرين في مدن ، وقد لُفت وجوههم بكوفياتهم، يسوقهم رجال القوات الخاصة الذين يرتدون أقنعة النينجا. ثم تُروى عنهم مرويات: كانوا ينوون التخطيط لاغتيال قاضٍ. كانوا ينوون السفر الى افغانستان. كانوا ينوون تفجير خط سكة حديد، وكانوا وكانوا... ثم يبدأ اشتغال غريب، فيقال إنهم ليسوا شبكات بل أشخاص خطرون (وهذا أنسب، فلو كانت هناك شبكات، لظهرت عندها الاجهزة الفرنسية كمن جرت المياه من تحتها)، ويقال إنهم لم يرتكبوا بعد افعالاً ارهابية، لكنهم مهيأون لارتكابها، والقصد نفسي وليس عملياتياً. ويقال إنهم معروفون من الاجهزة لكنها كانت تنتظر اللحظة السانحة (وهي تبدو حانت قبل أسبوعين من الدورة الاولى للانتخابات الرئاسية). أليس كل ذلك مضجراً؟ مكشوفاً الى درجة الهزل؟ ورغم ذلك يحدث، وتحدث معه ظاهرة منحطة، فيتحفظ السياسيون وحتى معظم الكتاب الصحافيين عن الادانة الصريحة لهذه الارتكابات، مخافة أن يقع حادث ما فيُلام المتحفظ. مخافة أن يخسر المتحفظ بعض أصوات القاعدة الشعبية في القرى النائية التي ترى تلك الافلام على التلفزيون، فتصدِّق، وسيسؤها أن يُستخف بخوفها. بل يصرح الرئيس بأنه سيعاقب قضائياً من الآن فصاعداً كل متصفح لمواقع انترنت تمجد الارهاب، ولا يدري أحد إن كان يقصد بذا تعميم الرقابة على الانترنت، والتلصص على مستخدميه. وفي خضم هذه الحملة «الشعواء» (يبدو التعبير مناسباً في إنشائيته الغامضة، وقد تعلمه الجميع في الصف الثالث الابتدائي)، يُرمى فجأة الى الحلبة بأن ساركوزي يريد تبسيط اجراءات الطرد من فرنسا، ولكن تضارب الصلاحيات بين قاضيي النظر في عمليات الاعتقال والطرد (القاضي الاداري الطارد، والقاضي الحقوقي الذي غالباً ما يطلق الموقوف لمخالفة اعتقاله القوانين) يجعل الأمر مستحيلاً. يصوت ساركوزي للقاضي الاداري، ويعلن أنه يحتاج الى تعديل الدستور، بالتالي الى استفتاء عام! ويعد به لو أعيد انتخابه. ماكينة التخويف والوهم معاً وصلت هنا الى ذروتها. وأما التخويف ففهمناه، وأما الوهم فيتعلق بإشاعة أنه لو أمكن طرد ثلاثين شخصاً معاً، أو ثلاثمئة، وليس فحسب ثلاثة ائمة مساجد من غير الحائزين على الجنسية الفرنسية، فستحل المشكلة. هذا بدائي؟ بالتأكيد، ويكفي أن يرى المرء كاريكاتورات «بلانتو»، رسام «لوموند» وأشهر معلقي فرنسا، ليتأكد من مقدار افتضاح الامر. لا بد إذاً أن ال spin doctor، (ذاك الاختصاصي في التأثير على اتجاهات الرأي العام عبر فبركة الروايات، وتوجيه مسلك الرئيس ووضعياته وخطبه) الموجود في خدمة ساركوزي قد اعيته الحيلة. ولعله ايضاً لا توجد خطط افضل، فالزمن حقاً صعب، يتبع مساراً انحدارياً. وهذا عموماً، وليس فحسب في ما يخص أداء ساركوزي في السنوات الخمس الفائتة والذي وصف بأنه كارثي. بقى سؤال محير: كيف يتم نقل كل تلك المجموعات من الصحافيين الى مسرح العمليات؟ ماذا يقال لهم للحفاظ على سرية العملية؟ ومتى سيحين وقتٌ... تُرَاقب فيه الاشرطة قبل بثها؟ فافتراض التواطؤ (بالأخص المديد والمحكم) لا يستقيم. سؤال أخير: متى ينفجر شباب الضواحي غضباً شديداً وعنيفاً، على عادتهم كل بضع سنوات، هو نسيج من الحرمان الفظيع والاضطهاد المهول؟ وربما في إحدى المرات لا يكون قابلاً للاحتواء. ولكن من يفكر أبعد من أنفه، ومن الاسابيع القليلة المقبلة؟