لا يمكن زائرَ مصر عدمُ ملاحظة مظاهر التراجع في الأوضاع الاقتصادية، مثل: طوابير السيارات أمام محطات الوقود، والفنادق شبه الخاوية، وأعداد الشباب في الشوارع من دون عمل يذكر. ولا ريب في أن الأوضاع السياسية التي تمر بها مصر منذ «ثورة 25 يناير» 2011، وتنحي الرئيس حسني مبارك، تساهم في تراجع الأداء الاقتصادي، فالإيرادات السيادية تراجعت، والأمن أصبح من عوامل طرد المستثمرين والسياح، وطبيعة التوجهات الاقتصادية يكتنفها الغموض. يضاف إلى ذلك أن من أسباب تعطل الاستقرار السياسي، المسار المتبع منذ تنحي مبارك، إذ لم تتّبَع آليات واقعية وعملية باتجاه التحول نحو الديموقراطية والحكم الدستوري الحقيقي. ولذلك لا تعرف مصر بعد انتخابات مجلسي الشعب والشورى هل سيكون الحكم رئاسياً أو برلمانياً، وما هي صيغة الدستور وطبيعتها وهوية واضعيها. ولا بد من أن تكون لهذه المعطيات السياسية تأثيرات اقتصادية سلبية لا تؤدي إلى تحسين معدلات النمو وتعزيز الموارد وارتفاع مستوى العطاء وتأمين فرص للأعمال والتشغيل في البلاد. وليس تعثر المفاوضات بين مصر والدائنين والمؤسسات المالية الدولية وبلدان الخليج مستغرَباً، في ظل الأوضاع السياسية الراهنة لمصر وعدم تأكد الجهات الممولة ما ستؤول إليه أوضاعها المتنوعة خلال الشهور والسنوات المقبلة. كانت مصر، وفق تقارير، تملك أرصدة تتجاوز 38 بليون دولار بداية العام الماضي، لكنها اليوم لا تملك أكثر من 10 بلايين دولار، إذ استُنزفت أموال طائلة لمواجهة متطلبات الإنفاق الجاري والدعم السلعي خلال الشهور الماضية، فيما لم تتمكن البلاد من تحقيق أي إيرادات سيادية جديدة تذكَر. وربما تظل إيرادات قناة السويس هي الثابتة حالياً، فيما تراجعت تحويلات العاملين في الخارج لأسباب تتعلق بالأوضاع الاقتصادية في البلدان التي يعملون فيها، وتراجعت إيرادات السياحة في شكل مؤكد. وفي ظل الفوضى السياسية والاجتماعية، تعطل العديد من المصانع والمزارع، ما خفض الإنتاج السلعي وإمكانيات تحصيل إيرادات من تصدير السلع المصنعة أو المنتجة في البلاد. وأدت هذه التطورات الاقتصادية السلبية إلى تراجع حماسة المستثمرين العرب والأجانب بعدما كانوا يراهنون على إيجابيات الاستثمار في قطاعات عديدة، ووظفوا الأموال في تلك القطاعات خلال العقد الماضي، ما أدى إلى انتعاش السوق المالية المحلية. ومن المؤكد أن عمليات الاستثمار المحلي والأجنبي في مصر اكتنفها فساد كبير، ولم تكن ذات شفافية أو مبنية على مقاييس ومعايير استثمارية مستندة إلى القوانين والأنظمة، بل كان كثير منها يتسم بعدم التواؤم مع القانون والاعتماد على صلات مع المسؤولين ومتخذي القرار. ولذلك يتوجس النظام السياسي الجديد ريبة من كل الاتفاقات والعقود المبرمة في مجال الاستثمار، اعتقاداً منه بأن كثيراً منها ألحق أضراراً بحقوق الأموال العامة وحقوق الشعب. قد لا تكون هذه الأحكام موضوعية، لكنها انعكست على طبيعة العلاقات مع المستثمرين وجعلتهم أسرى مخاوف من أي أعمال جديدة في مصر. ومن أهم النتائج المترتبة على توقف الاستثمارات الجديدة، ارتفاع أعداد العاطلين من العمل وارتفاع معدل البطالة الهيكلية في البلاد. وتواجه مصر الآن متطلبات أكثر من 88 مليون مواطن تزيد نسبة الشباب، بينهم عن 60 في المئة، فيما يتدفق ملايين الأشخاص إلى سوق العمل في مصر أو يحاولون الحصول على فرص عمل خارجها. لكن فرص العمل ليست متاحة في شكل كاف لا داخل مصر ولا في البلدان التي تستقبل العمال المصريين تقليدياً مثل بلدان الخليج أو جنوب أوروبا. ولا يبدو أن مخرجات التعليم في مصر تتوافر فيها متطلبات الاقتصاد العصري لجهة التأهيل التعليمي أو الكفاءة أو الجودة، فالتعليم تراجع خلال السنوات ال 60 الماضية على رغم تأمين التعليم المجاني للجميع، إلا أن الجامعات المصرية لم تعد تملك السمعة الأكاديمية ذاتها التي اشتهِرت بها في خمسينات القرن العشرين وستيناته. وعلى رغم ازدياد أعداد المعاهد التطبيقية والمهنية والجامعات الخاصة في البلاد، إلا أنها ليست مقبولة أكاديمياً بموجب معايير القياس التعليمي المتعارف عليها دولياً. وربما سيكون مطلوباً من الحكومة الجديدة المقبلة في مصر إيلاء التعليم وأنظمته ومناهجه الاهتمام اللازم، من أجل الارتقاء به. ولا شك في أن التعليم يجب أن يكون محوراً أساسياً في عمليات الإصلاح البنيوي في مصر خلال السنوات المقبلة. ليست التحديات الاقتصادية التي تواجه مصر وليدةَ اليوم، بل كانت كامنة منذ زمن طويل، وهي نتاج لسياسات متراكمة بدأت منذ اليوم الأول ل «ثورة 23 يوليو» 1952. وقد يكون قانون الإصلاح الزراعي الذي اعتمِد في شكل متعجل في بداية تلك الثورة من أهم السياسات غير الموفقة، وبما أدى إلى تراجع الإنتاج الزراعي بعد تفتيت الأرض الزراعية وغياب الإدارة التي تتحكم في عملية الإنتاج في ذلك القطاع الهام. ويجب أن لا ننسى تمصير المصارف والمؤسسات الاقتصادية الأخرى في خمسينات القرن العشرين وما تبعها من تأميم للشركات والمصانع والفنادق وغيرها. وبعدما اعتمدت الحكومة المصرية القانون 43 لعام 1974 في عهد الرئيس أنور السادات، لم تحصل عمليات التخصيص وفق أسس واضحة وتعطل تخصيص المؤسسات الحيوية، كما أن سياسات الانفتاح شابها غموض وتراجع في عهد مبارك. كيف يمكن إذاً للإدارة الجديدة تطويع كل العقبات والعراقيل والتوجهات السياسية غير المواتية لتفعيل دور القطاع الخاص المصري وجذب الاستثمارات الأجنبية وتحسين بيئة الاستثمار بما يعزز القدرات الإنتاجية ويرتقي بالأداء الاقتصادي خلال السنوات القليلة المقبلة؟ هناك توجهات سياسية متنوعة على الساحة المصرية من سلفية إسلامية إلى إسلامية معتدلة إلى ليبيرالية إلى اشتراكية متطرفة، فكيف يمكن التوفيق بين هذه الأطراف، أو التوجهات، في حكومة ائتلافية تتبنى إستراتيجية وبرامج اقتصادية تؤكد مسيرة ثابتة لمصر باتجاه التنمية الاقتصادية والارتقاء بالمستويات المعيشية والتواؤم مع الاقتصاد العالمي؟ * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت