غوستاف فازا هو، بالنسبة الى السويد، مثيل لما كانه بطرس الأكبر بالنسبة الى روسيا: مؤسس سلالة حاكمة ومؤسس دولة، وبطل تراجيدي في الوقت نفسه. وإذا كانت هناك مسرحيات عدة تغوص في حياة هذه الشخصية التاريخية الاستثنائية، ومنها ما هو ألماني أو ايطالي، فإن العمل المسرحي الأفضل - بإجماع النقاد - الذي دنا في شكل جدي من حياة غوستاف فازا، كان المسرحية التي تحمل الاسم نفسه، والتي كتبها السويدي أوغوست سترندبرغ في عام 1899، حين كان في الخمسين من عمره وبلغ أوج شهرته. وفي الأصل كتب سترندبرغ، استاذ الكتابة المسرحية السويدية من دون منازع، مسرحية «غوستاف فازا» لتشكل ثلاثية مع مسرحيتين أخريين له هما: «المعلم أولوف» و «إريك الرابع عشر»، بيد أن هذه الثلاثية ظلت نظرية، إذ إن كلاً من المسرحيات الثلاث عوملت دائما في شكل مستقل... ولا سيما «غوستاف فازا» التي غالباً ما اعتبرت انعطافية في مسار صاحبها المهني ولا سيما في مجال رسمه الجدلي لشخصية الملك/المؤسس، الذي لم يعد هنا شاباً مقداماً متهوراً، كما كانت حاله في «المعلم أولوف»، بل أضحى أقرب الى الاكتمال، يعيش أصعب المراحل التراجيدية في حياته، ويحاول أن يتأقلم مع حياة الصراعات والمؤامرات والحروب. والحقيقة ان سترندبرغ، لم يحاول في هذا العمل أن يحذو حذو شكسبير في تركيزه على المصائر الدرامية لشخصياته حتى ولو كانت منتزعة من التاريخ نفسه، بل سعى الى أن يرسم لوحة تاريخية بانورامية تتحلق حول شخصية الملك غوستاف الذي لن يظهر، هو نفسه، في المسرحية، إلا في الفصل الثالث، علماً أن المسرحية مؤلفة من خمسة فصول. لوحة بانورامية تاريخية هي، إذاً، هذه المسرحية التي شرع سترندبرغ في كتابتها فور إنجازه كتابة مسرحيته السابقة عليها «ملحمة فولكونغار». وقد استغرقه انجاز كتابة «غوستاف فازا» أقل من شهرين، ما يجعلها أسرع مسرحياته انجازاً، هي التي تعتبر على أية حال من أهم مسرحياته التاريخية إطلاقاً. وينبني هذا الحكم انطلاقاً من التميز التقني للنقلات المسرحية ومن الحوارات الغنية ذات اللغة المجلجلة والشكاكة في الوقت نفسه. فإذا أضفنا الى هذا ان سترندبرغ، وكما يفعل المبدعون - عادة - في أعمال أولى لهم، عمد هنا الى جمع الكثير من المواضيع والأفكار والمواقف في بوتقة واحدة، كما هو التاريخ عادة، فإننا نجد أنفسنا وكأننا إزاء عمل شاء كاتبه أن يطبق فيه ما كان هو نفسه قد تحدث عنه في مقال كتبه لإحدى الصحف لاحقاً، على الشكل الآتي: «لقد لوحظ منذ زمن بعيد أن تطور التاريخ، إنما يخضع لهيمنة بعض القوانين التي تشبه قوانين تطور الطبيعة نفسها. بيد أن هذا التطور يحمل من تركيبة الحرية والإكراه ما يتعيّن معه، من ناحية، الاعتراف للإنسان بدرجة معينة من الاختيار الحر، ومن ناحية ثانية الإقرار بوجود ضرورة تحدّ، تبعاً للظروف، من قدرة الانسان على حيازة كل استقلال ذاتي له...». والحال ان مسرحية «غوستاف فازا» تنطلق، وفي شكل مبدئي، من هذه الفكرة الجدلية، لترسم صورة مرحلة من تاريخ الملك الذي تحمل اسمه، ومرحلة من تاريخ السويد.. ولكن، من خلالهما، صورة للتناقضات الحادة التي يعيشها الانسان والعلاقة مع السلطة ومفهوم الثورة والقمع. والمهم هنا، هو أن سترندبرغ يقدم هذا كله، من دون أية رغبة في فرض نظرته الخاصة الى الأمور. إذ تبدو المسرحية هنا، وكأنها والتاريخ يتضافران معاً لتقليب الأحداث وعطفها على بعضها بعضاً، في لغة طبيعية تترك المجال واسعاً أمام أسئلة عن دوافع وتصرفات، تظل من دون اجابات... تماماً كما هي الحياة نفسها. من ناحية مبدئية، ووفق تفسير محللي أعمال سترندبرغ، تبدو «غوستاف فازا» مسرحية همّها الأساس ان تؤكد كيف ان يد القدر تواصل على الدوام ممارسة ضغطها على الأحداث... غير ان هذا لا يمنع من إدراك أن يد القدر هذه - العناية الإلهية - تحرص على أن تترك للإنسان، في تصرفاته وأفعاله، هامش مناورة وبعض حرية اختيار لا لبس فيها. هنا في هذه المسرحية من الواضح ان الملك، إذ تجابهه المخاطر والصعوبات، يحرص على أن يتحمل، فقط، النتائج المترتبة على أخطائه الشخصية. انه ليس على استعداد لتحمل مسؤوليات السلالة التي ينتمي اليها، أو أخطاء الآخرين. لتوضيح هذه الفكرة الرئيسة التي توخّى ايصالها، إذاً، حدد سترندبرغ، بداية، الاطار الزمني والحدثي للمسرحية: انه الزمن الذي وجد فيه غوستاف فازا، نفسه يجابه ثورة الفلاحين التي قادها نيلز داكس أواسط القرن السادس عشر. والملك هنا كما يتبين لنا من خلال ما يحكى عنه في الفصلين الأولين، تعب مما يحدث، لكنه لا يزال يراوغ ويقسو، بين الحين والآخر. يتصرف مرة في شكل ماكيافيللي ومرة في شكل متواضع يشهده منحنياً أمام بساطة الإنسان وأمام إرادة الله. غير ان هذا لا يردعه عن ارتكاب تلك المذبحة الكبرى التي يتخلص خلالها من زعماء الثورة المعادية، إذ يرتب خدعة فحواها دعوتهم الى التفاوض ثم ذبحهم واحداً بعد الآخر - كما سيفعل محمد علي باشا. خديوي مصر الأول في القلعة -. وهذه المجزرة تشغل الفصل الأول. أما في الفصل الثاني فليس أمامنا سوى مشهد يرينا كيف تمارس السلطة بناء لمصلحة الدولة كما يرتئيها سيدها. وفي الفصل الثالث الذي يطالعنا فيه غوستاف فازا، للمرة الأولى، كشخصية تاريخية وشخصية تراجيدية في آن معاً، نجد الملك في صورة مدهشة له: مجنون وعاطفي في حياته الخاصة، قاس وعنيف في ممارسته السلطة. والمدهش ان سترندبرغ يصف لنا حالتي الملك هاتين من دون أي موقف سلبي أو إيجابي تجاهه... ان الماكيافيللية هي التي تشتغل هنا على أوسع نطاق، ومن دون أية أفكار مسبقة. وإذ يتابع المؤلف في الفصل الرابع رسم صورة الملك على ضوء شخصيته وعصره، ننتقل في الفصل الخامس الى ذروة المسرحية، بحيث - من الناحيتين الفكرية والتقنية معاً - يكاد يبدو المؤلف وكأنه يلخص هنا كل نظرته الى المسرح والى الحياة. ففي هذا الفصل لدينا الملك وقد أحاط به خطر حقيقي إذ وصل الفلاحون الثوار أمام بابه. وها هو يخرّ متواضعاً أمام ربّه، لا يسأله الرحمة بل الحكمة. ومن الواضح انه صادق في طلبه هذا. وتحدث المفاجأة: إذ يدخل الفلاحون ونشعر نحن، معشر المتفرجين، ان كارثة ستحلّ بالملك، يتبين لنا بسرعة ان الفلاحين لم يأتوا لقتل غوستاف بل لإنقاذه... وربما لإنقاذه من نفسه... ولعل هذا الفعل الأخير هو ما أبعد عن «غوستاف فازا» طابع المسرحية التراجيدية الذي كانت تبدو عليه أول الأمر، ليسبغ عليها طابع العمل التاريخي وربما الملحمي أيضاً.. علماً أن ملحمية بريخت التأسيسية لم تكن قد ظهرت بعد. لقد حلق أوغوست ستراندبرغ (1849 - 1912) عالياً في هذه المسرحية التي تعتبر، مع هذا، من أقل أعماله شهرة... ذلك ان مسرحيات هذا الكاتب السويدي الكبير، ذات الطابع التاريخي، ظلمت دائماً أمام شهرة مسرحياته الاجتماعية، مثل «الحلم» و «الآنسة جوليا» و «سوناتا الأشباح». ومع هذا، لا يمكن سيرة لسترندبرغ، استاذ هنريك ابسن وإنغمار برغمان (بين مبدعين آخرين في المسرح والسينما في القرن العشرين)، إلا أن تقف مطولاً عند أهم مسرحياته التاريخية، ومن بينها، بالطبع، «غوستاف فازا» التي أثارت سجالات كبيرة حين كُتبت وعُرضت عشية نهاية القرن التاسع عشر. [email protected]