ضاقت الفضائيات العربية، على كثرتها وتنوعها، بالحديث عن ذكرى مجزرة مؤلمة وقعت منتصف آذار (مارس) 1988 في إقليم كردستان العراق. إنها مجزرة حلبجة، التي اتخذت من اسم تلك البلدة الوادعة على تخوم الحدود العراقية الإيرانية اسمها، وحصدت أرواح خمسة آلاف شخص من الجنسين ومن مختلف الأعمار في ساعات قليلة، لتكون بذلك عنواناً لإحدى أكثر الجرائم وحشية، التي شهدها القرن العشرون. ارتكبت المجزرة، آنذاك، في غفلة من الزمن ومن عدسات الفضائيات التي لم تخترع بعد. صور فوتوغرافية قليلة تسربت من حقل الموت ذاك، بينها تلك الصورة الشهيرة لأحد سكان البلدة عمر خاور وهو يحنو برفق على طفله كي يحمي عمره الغض قبل أن تقضي الغازات الكيماوية السامة على الاثنين معاً. كان من الطبيعي أن تخصص الفضائيات الكردية مساحات مطولة من بثها لإحياء ذكرى المجزرة الأليمة التي جاءت في سياق حملات «الأنفال» التي شنها النظام العراقي ضد مواطنيه الأكراد، وأزهقت أرواح نحو 182 ألف كردي، وثمة العشرات من الأفلام الوثائقية التي تناولت تلك الحملات، السيئة الصيت، بالأرقام والتواريخ والشهادات، وروت فظائع عما جرى في يوم وقوع المجزرة. لكن الفضائيات العربية، التي تعيش أجواء ومناخات الربيع العربي وتبشر بنهاية «الطغاة»، تجاهلت «ربيع الموت الكردي»، ذاك الذي صنعه ديكتاتور أُعدم لاحقاً، ولم تكلف نفسها عناء الإشارة إلى «قصة موت معلن» جرت فصولها في بلد عربي، لا في مدينة نيويورك، مثلاً، حيث سقط برجي التجارة العالمي، فذكرى هذه الحادثة الأخيرة تأخذ أياماً طويلة من بث الفضائيات العربية، أما مجزرة حلبجة، وللمفارقة، فلا مكان لها في الفضاء العربي، مع أن الأمر لم يكن ليحتاج إلا إلى تقرير من خمس دقائق فحسب. لن نتحدث هنا عن «نظرية المؤامرة»، فغياب المجزرة عن الشاشات العربية لا يحتمل مثل هذا التأويل. ولكن تمكن الإشارة إلى الذاكرة القصيرة للفضائيات التي تعيد وتكرر الحدث اليومي عشرات المرات لكنها تعرض عن العودة سنوات قليلة إلى الوراء لتكتشف حجم الكارثة التي حلت، ذات ربيع، بآلاف الناس الذين كانوا يستعدون للاحتفال بعيد «نوروز» (اليوم الجديد)، غير أن طائرات النظام العراقي باغتت أطفال حلبجة وحولت الفرح الوشيك إلى تراجيديا باهظة القسوة لم تزل تفاصيلها تروى، حتى هذه اللحظة، كدليل على محنة شعب عاش طويلاً في «حقول الرماية»، بتعبير سليم بركات. وإذ حان الوقت لبلسمة الجراح، ظلت الفضائيات العربية بعيدة من المآسي الكردية. الفضائيات الكردية لم تقصر في استعادة الذكرى، بيد أنها استخدمت لغتها؛ لغة الضحية التي عجزت عن الوصول إلى مسامع الشقيق العربي وهو يصغي إلى «لسان الضاد»، الذي خلا من كلمة «حلبجة». لكن الأكيد أن هذه الكلمة ستظل حية في وجدان وضمائر البشرية، مهما أغفلتها الشاشات، وستبقى برهاناً دامياً على ما قاله الجواهري: باقٍ وأعمارُ الطغاةِ قِصارُ...