اتسمت المساهمة الأرجنتينية في «مهرجان البستان» اللبناني، مساء أول من أمس، بعبق ليليّ فاحت منه نكهة آلة الباندوليون، رفيقة ألحان العشق اللاتيني الحار والحاد في الوقت ذاته. فتلك الآلة الهجينة، التي تجمع فضائل الأكورديون وحسنات المزمار، هي وليدة اختراع جنوب أميركي وراءه الحاجة إلى باعث موسيقي يستطيع حامله أن يجوب به الشوارع ويزور المقاصف والحانات بأقل ما يمكن من الثقل والحجم، وأكثر ما يمكن من التنويع اللحني الداعي إلى الرقص، إضافة إلى التبحر العاطفي الرومانسي، على غرار دور القيثارة الإسبانية، بل بتنوع يضاهي القيثارة. خمسة موسيقيين، على رأسهم المؤلف وعازف الباندوليون دانيال بينيللي، وعشرة راقصين في طليعتهم مصمم الرقصات كلوديو هوفمن، شكلوا فريقاً عاصفاً باسم «تانغو ميتروبوليس» ليقدموا عرضاً غزير التنوع منطلقه رقصة التانغو على مدى ساعة ونصف الساعة. في الجزء الأول تعرفنا إلى شخصيات من عالم الليل: قوية، هزيلة، مدعية، مسكونة بالهواجس، تتدافع إلى النور الشاحب وتنكفئ إلى العتمة من جديد، فكأنها وريثة غير شرعية لمصاصي الدماء وقد نزع الزمن الشقي أنيابها! لكنها تعيش على مصل العواطف، فتسترق لحظات متعتها بألم واستماتة، ثم تمضي آفلة إلى غير رجعة، من دون حزن أو شكوى مع أنها على وشك إبكاء الجمهور. وعلى رغم شطارة الإنجاز «الكوريوغرافي» المرسوم بعناية ودقة واضحين، أحسسنا في نهاية الجزء الأول من العرض بغياب اللسعة المطلوبة لتحويلنا كلياً إلى «مواطنين» منضوين في مناخ مدينة بوينس آريس. لماذا؟ وما مصدر ذلك المضض الطفيف؟ لعلها ثقافة التانغو ذات الالتباس المتناقض. فبينما يطلق العشاق العنان لمشاعرهم ويطاردون رغباتهم كأنهم يتسلقون جبالاً وعرة، تراهم أيضاً مكبلين بأوزار الذنب وأصفاد الخطيئة. كلما حررهم تحقيق الرغبات، أوغلوا في محاولات التطهر منها، ليعودوا ملتهبين إلى عناق بلا توبة. رأينا هذا المد والجزر في الرقصات الثنائية ولمسنا ومضات الفكاهة هنا وهناك، لكن اللقمة بقيت عالقة في الحلق كما يقول المثل. وفي الاستراحة قالت إحدى السيدات: «شعرت أننا في مقصف أكثر منه مسرحاً، لكن لو كنا ساهرين في علبة ليل، لما تسنى لنا التركيز على الناحية الفنية». كانت هي أيضاً حائرة بين رأي متحمس وتوقعات آملة. وما هي سوى عشرين دقيقة، فترة الاستراحة بين جُزْأي العرض، حتى بدأت معالم الإجابة تظهر: كنا حتئذ نتعلم معاني الإشارات الأدائية، ونتلقى شروحاً حركية توطئة للتوغل بنا في قصص حب متلاحقة، على وتيرة متصاعدة، وفي أناقة مذهلة، ولياقة طافحة بالشغف واللهو والغواية. أي أن الجزء الأول من العرض كان بمثابة درس مرصوص، هيّأنا للتمتع بالحكايات الكاملة. وها هما الغيرة والارتياب، يجرفهما الشوق في سيل من الخطوات المركبة جعلت أطراف الراقصين والراقصات أقرب إلى فراشات عالقة داخل إناء زجاجي، يتموجون، يتأرجحون بين التحليق والركون الخاطف، فلا يعود ثمة فرق بين حراكهم وبين الموسيقى التي توقده. صحيح أن رقصة التانغو الكلاسيكية لا توحي بإمكانات خصبة للابتكار، بسبب خطواتها المكرورة ذات النفس البطيء عموماً، لكن تحويلها فناً متطوراً، ينهل من التراث الموسيقي والفولكلوري الغني، مطعّماً بمهارات الباليه وشطحات الرقص المعاصر، أظهر تلك الرقصة في حلة تعبيرية ممتعة، وما عدنا قادرين على ادعاء البراءة من الانتماء، ولو لأمسية واحدة، إلى أولئك العشاق الخارجين إلى ليلهم الحار يتمايلون على أنغام الباندوليون والغيتار والتشيللو والكمان والبيانو، فضلاً عن تدخل الطبول في مرحلة وسيطة من العرض. بعد زيارة «البستان» اللبناني، تعود فرقة «تانغو ميتروبوليس» إلى تجوالها العالمي، ويكمل المهرجان موسمه الجنوب أميركي مع سهرة أخرى لموسيقى رقصة «سالسا»، في 20 الشهر الجاري، وتتخلل ذلك مساهمات أحادية وثنائية يختتمها في 25 منه عازف البيانو موريسيو نادر بمشاركة الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية وقيادة المايسترو الإيطالي جيانلوكا مارسيانو. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الروائية الزميلة مي منسى وقعت في سهرة أول من أمس، على هامش «البستان»، روايتها الجديدة «ماكنة الخياطة» الصادرة أخيراً عن دار رياض الريّس للكتب والنشر.