هناك بلد عربي، على طريقته وبأسلوب خاص به، شهد طوال عام مواجهات اختلط فيها منطق القراءة السياسية بمنطق الاندفاع نحو المجابهة المسلحة. ثمة مؤرخون يرون أن المواجهة هذه بدأت بتظاهرة سلمية، احتجاجية ومطلبية، وأن لجوء الفئة القابضة على مقاليد السلطة إلى القمع وبعض القتل والاستئثار أوجد، مع معطيات إقليمية ودولية موسومة بالتنازع، مناخاً يحضّ على تسخين المواجهة وتوطين النزاع وتأييد الجماعات المسلحة المناهضة للسلطة والدولة. الجمهور المؤيد لهذه الجماعات، وهو خليط من قوى حزبية عقائدية وتجمعات أهلية، ألقى المسؤولية عن احتدام النزاع على السلطة الفئوية المتمسكة بامتيازاتها، فيما اعتبر الجمهور المؤيد لهذه السلطة أن الجماعات المسلحة وداعميها الحزبيين والأهليين خرجوا على الدولة والقانون وانتهكوا هيبة السلطة الشرعية وتسلطوا على المدن والأحياء والحارات. لم يجد مؤيدو السلطة المتهمة بالفئوية والطائفية، غضاضة في تشكيل ميليشيات مسلحة لمحاربة الطرف الحزبي والأهلي الآخر والتنكيل به. لا حاجة للتوسع والاستفاضة في ما يمكن أن تقود إليه ترسيمة صراع عنيف وعبثي من النوع هذا. فهي في المحصلة وقائع فظاعة معلنة اسمها الحرب الأهلية أياً يكن شكلها وتلوّن أطرافها. وهي ستقود إلى تحطيم المجتمع والدولة، وإلى تمزيق النسيج الوطني ونصابه، وإلى إصابة الأفراد الناجين من رحى ثفالها بشيخوخة وتجاعيد، جلدية وروحية، مبكرة جداً. نرجّح أن يميل كثيرون إلى الظن بأننا نتحدّث عن سورية وبأننا نزعم النظر عن بعد وعن مسافة نقدية وأخلاقية وعظية حيال المقتلة الدائرة فيها. سنسارع إلى تبديد ظنون القارئ. التوصيف المعروض أعلاه ينطبق على لبنان عام 1975. وهو لا ينطبق على سورية إلا لدى الراغبين في الموازنة الصورية بين وضعين مختلفين من وجوه عدة، وإن كان بعض وجوه الاجتماع والتاريخ يحمل على المقارنة وربما على وجود تشابه. وهذه مناسبة للقول إن قسماً من أدبيات اللبنانيين الخائضين في الشأن السوري، والموزّعين على طرفي الاصطفاف في لبنان، لا يفعل سوى استئناف منطق الحرب الأهلية بعد أن استبطنوا مفاعيله وآليات اشتغاله. وليس مهماً هاهنا انتقال الخائض من موقع إلى آخر. إنها أيضاً طريقة لطرح سؤال يبدو سهلاً للوهلة الأولى: هل يمكن وضع جردة حساب بما حملته وتحمله انتفاضة شعبية وأهلية في آن بعد عام على اندلاعها، كما هي حال الانتفاضة السورية؟ سهولة السؤال تعود إلى التوافق الاصطلاحي على ضرورة التقويم بمناسبة مرور سنة على انطلاقة الانتفاض أو التمرد أو الثورة. الصعوبة تقع في نطاق آخر. فعندما يكون الكاتب، أو المراقب والمتابع، عربياً ومشرقياً ومعنياً مباشرةً بالمصير السوري، يتعذر عليه أن يتجرّد أو حتى يتخفّف من فيض الانفعالات والمشاعر لمقاربة الموضوع بدم بارد كما يقال. ستكون مقاربته طريقة وأسلوباً لحماية نوازع شتّى يختلط فيها الأمل والألم، والقلق والرغبة في الخلاص. وسيكون لكل واحد أن يتعهد مقادير معينة من هذه النوازع. قصارى القول إن من يتحدّث من الداخل ليس كمن يتحدّث من الخارج. ولا علاقة للبعد أو القرب الجغرافي بتعريف الداخل والخارج. إنه خيار إقامة وانتماء وتحمل أثقال التاريخ، بما في ذلك التاريخ الموسوم بالفظاظة والاستبداد، والذي نحسب أن طرده كيفما اتفق لن يعيده من النوافذ ومن عديد القنوات الجوفية المقيمة في ثنايا الثقافة الاجتماعية والأهلية. فلنقل إن حصيلة العام الأول من الانتفاضة السورية مخيفة فعلاً. وهي مخيفة ليس فقط بسبب العدد الكبير لضحايا الحلّ الأمني الذي اعتمده النظام من البداية (ما بين تسعة وعشرة آلاف قتيل، وآلاف الجرحى والمعوقين، وآلاف المعتقلين إضافة إلى حوالى عشرين ألف نازح). الحصيلة مخيفة لأن المسألة السورية أخذت تتحول إلى معضلة، أي إلى وضع لا أفق له سوى المزيد من التآكل والاستنقاع، فيما تتزايد المؤشرات السياسية والميدانية إلى وصول أطراف النزاع إلى نقطة اللاعودة، ما يعني ارتسام الحرب الأهلية، في شكل أو في آخر، قدراً مأسوياً للبلد السوري. وقد ساهم الجميع، وإن بمقادير متفاوتة، في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه. يتحمل النظام بالتأكيد القسم الأكبر من المسؤولية، ومن الإجحاف أن نضع على قدم المساواة أخطاء المعارضة وانقساماتها والرهانات الخاطئة والمتهورة لبعض أطرافها، وصلف النظام وإصراره على التمسك بلغة تجمع بين الفتوّة المملوكية ودهاء حاوي الثعابين. طوال عام كامل لم يظهر هذا النظام أدنى حد من التواضع والاعتراف للناس بحقهم في مساءلته ومحاسبته، ناهيك عن حقهم في التعبير عن سخطهم وتظلّمهم. لقد ارتاح النظام الأمني إلى نخبويته واستعلائه مفترضاً أن انفصاله عن المجتمع الذي يسوسه هو من مستحقات عبقرية سياسية استثنائية. صحيح أنه وسع قاعدته من طريق الرشاوى الاجتماعية ولبرلة الاقتصاد وتلميع هياكل الدولة والمؤسسات وتحويل الحزب القائد إلى مكتب خدمات وتشغيل للمناصرين والمقربين والمسترزقين، لكنه بقي يلفّ هذه كلها بطوق أمني لا يقود إلا إلى ترسيخ طابعه الخارجي وقذف فئات شعبية عريضة إلى الهامش. ونرجّح أن تكون فكرة الاستنجاد بالخارج لاقت هوى لدى الفئات الأكثر هامشية والأكثر اعتقاداً بالطابع الخارجي للنظام. في مخيلة هؤلاء ستكون المعادلة هي صراع خارج أجنبي ضد خارج مقيم. وقد عوّلت أطراف إقليمية ودولية على المطالبة الداخلية بالتدخل والتسليح وعلى النفخ فيها ووصلنا إلى مشهد غريب: بمقدار ما يزداد النفخ في ضرورة التدخل الأجنبي يزداد امتناع الأجنبي عن التدخل. كل الذين أرغوا وأزبدوا يتحمّلون أيضاً مسؤولية أخلاقية وسياسية عن انسداد الطريق. القوى الغربية الأطلسية تنافسَ قادتها على تقدير المدة الباقية لنظام الأسد، وتنافسوا على المزاوجة الغريبة بين مطالبته بوقف العنف واعتماد المعالجة السياسية وبين اعتباره فاقداً للشرعية، فساهموا بحسابات باردة تتعلق بالقطبيات الدولية وتجاذباتها وبالسعي إلى تكسير أسنان إيران، في دفع الأمور نحو الإعضال. ولا يشذ آخر التصريحات الدولية عن ذلك. اللافت هو العبارات الانتقادية التي وجهها سيرغي لافروف للنظام بسبب تأخره الكبير في تنفيذ الإصلاحات. وقد رأى بحق هذه المرة أن سورية «دولة هشة وإذا تمت زعزعتها فقد ينهار كل الهرم». يدفع الشعب السوري ثمناً باهظاً للعبة الأمم. وفي انتظار ما ستسفر عنه مهمة كوفي أنان تبدو سورية متجهة نحو الكارثة... إلا إذا حصلت أعجوبة.