إنها تبدو للوهلة الأولى خارجة عن سرب قديم أو متقادم له سلالته في الرواية بصفتها ملحمة بورجوازية، كما أسماها في حينه جورج لوكاش. وهي عند العرب أقامت لنفسها جسراً ما بين الرواية الأوروبية والمواجهة السياسية مع الذات ومع المستعمر. واحتملت المواجهة مع الذات استقصاء مشروعية التراث والعادات والتقاليد: فمن الروائيين من هم على شاكلة يحيى حقي في «قنديل أم هاشم»، ومن وضعوا شخوصهم عند تقاطع التراث والحداثة، وجاروا سرداً ما يمكن أن يؤول إليه خيار أوروبا الحديثة وما يمكن أن ينتهي إليه من اضطراب وفشل. فكانت «الوسطية» سبيلهم: بمعنى تكييف العلم لمسايرة العامة عند العرب. ومنهم من وجد ضالته في الطبقة الوسطى الصاعدة، وما ينطوي عليه الصعود من إخفاق ونجاح. كان محفوظ وحتى حزيران (يونيو) 1967 روائي الطبقات المصرية الوسطى بامتياز قبل أن يسبقه تلامذته ومريدوه من أمثال عبدالحكيم قاسم وجمال الغيطاني وإدوارد الخراط وبهاء طاهر وهم يرتادون أرضاً لم يطأها، ويقدمون على استكشاف هوامش التأريخ وحياة الريف والتصوف وخطوط التماس بين الديانات. كان آخرون قد وجدوا المواجهة مع الغرب وطناً لم تطأه قدم بعد ولم يبلغه قلم: ففي عام 1939 كان العبقري ذو النون أيوب يكتب روايته «الدكتور إبراهيم» التي سبقت رواية الراحل الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» في تسليط الضوء على عسر هذه المواجهة وتبعاتها النفسية لدى النخب العربية الصاعدة: لقد سبق أيوب التأويلات النظرية المهمة التي جاء بها فرانتز فانون في «المعذبون في الأرض»، بخاصة وهو يتقصى انتهازية النخب هذه التي أوقدت لديها حضارة أوروبا تطلعات وآمال. ورواية الجوائز أخذت بالتباعد أيضاً عن الملاحم والسير وانشغالات البرجوازيين الصغار وهوامش الفكر الوجودي: ولم تظهر أصداء تلك الروايات المهمة في حينه، والتي لم تزل مأثرة في الكتابة العربية، من على شاكلة رواية فؤاد التكرلي «الرجع البعيد» وكذلك «المسرات والأوجاع»، وروايتي طاهر وطّار «عرس بغل» و «الزلزال»، وروايات مبارك ربيع وأحمد المديني وعبدالخالق الركابي وحنان الشيخ وعلوية صبح وغيرهم. لكنّ رواية الجوائز لم تتخطَّ بعد روايات رشيد بو جدرة، لا سيما «التطليق». والذي تعنيه هذه الملاحظة، أي الخروج على سلالة النسب بطريقة أو بأخرى، هو أن السياقات التي اعتمدتها الرواية أسوة بغيرها في العالم قد شهدت هزّة عنيفة اسمها «الجوائز»، إذ لا يمكننا أن ننسى الأهمية التي اقترنت برواية توفيق يوسف عوّاد «طواحين بيروت»، لا لأنها استبقت الحرب الأهلية، أو ما يسمى كذلك، ولكن لأنها جاءت للرواية من زاوية عتبات الشعر، فوضع عوّاد هذه العتبات عند كل فصل منها وكأنه يضع محنة بيروت على عاتق المثقفين: فالذين أخذ عنهم في هذه «العتبات» التي تتصدر النص كانوا من بين نجوم الستينات: ومن أعلام تلك الطفولة اليسارية التي قلما تلامس عمق المشكلة، بينما تبقى تحاور السطح، ملتهبةً منفعلةً مشعلها «الطهارة الثورية». ولما كان تراكم الجوائز قد اتخذ مساراً متصاعداً منذ التسعينات، فإن الثورة الإعلامية من جانب، ودخول مفاوضين أقوياء من جانب آخر، قد جعلا من الألفية الثالثة أكثر استقبالاً للظاهرة الروائية. ولا يمكن أن نقرأ تبعات وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات والصحافة الدولية بعيداً من (العولمة) التي حتمت استعراضاً مختلفاً للسلع المتداولة عبر الإعلان والترويج ومن ثم تخطي الحدود: ولم تعد الحاضرة العربية مركزاً فعلياً لهذا الذيوع، لكنها يمكن أن تكون سبباً فيه، مثلما هو أمر الجوائز الثلاث التي تظهر عن دولة الإمارات العربية: «العويس» (فرع الرواية)، «جائزة الشيخ زايد» و «جائزة البوكر العربية». ولمثل هذا الزخم مردوده الإيجابي الكبير على صعيد الإنتاج ونوعه. وإذ لم تترك السنوات الأولى بصماتها على رواية الجوائز كما يتبين في رواية «عزازيل»، فإنّ السنوات الآتية ستدفع الآخرين إلى محاكاة «عزازيل» في شكل أو في آخر. لهذا، أقول ثانياً، إن لرواية الجوائز «الأشباه» و «النظائر». ولا ينبغي أن يؤخذ هذا الكلام على محمل الاتهام: فهذه ظاهرة طبيعية في التسنين الأدبي والثقافي. إذ لا تكتسب المؤلفات صفة السنّة والتسنين إلا عند ثبوتها أولاً واقترانها بمصالح المؤسسة أو الكيان الاجتماعي والمعنوي والاقتصادي. وما يعده المؤرخون والنقاد (قانوناً Canon) ما هو إلّا ثبات سنّة ورسوخ نهج. ولا يتم الخروج عنه أو عليه إلّا بعد حين: فالقبول والتقادم من مواصفات التسنين. وإذا اتفقنا على أن التسنين جار لمجموعة من الأسباب، يمكن أن نذهب إلى ما يعنيه ذلك من تبعات ويفرضه من مواصفات وتقاليد. ولكن، علينا قبل الشروع بذلك معرفة ما يفترضه التسنين: فمجرد كون المؤسسة المشرّعة للجائزة ذات صفة مادية ومعنوية، رسمية أو غير رسمية، كان لا بد من التسنين. وإذا مضينا مع ميشيل فوكو، فإن التكوين المؤسساتي يفترض أصلاً مجموعة من آليات فاعلة التي تضمن غاية ما. ومرة أخرى، أرجو عدم افتعال الريبة، ومقابلة التحليل بالاستغراب. إذ، كما قلت في البدء، أقف مع الجوائز وأساندها بقوة الضعيف الذي لا يمتلك غير رأيه. ولكن المؤسسة تعجز عن تفعيل الآليات من دون مستقبلين: من روائيين ونقاد ودعائيين ومروجين وناشرين: فالتفعيل يشتغل طبقاً لاقتصاد السوق: وإذا مضينا قليلاً مع «ليوتاغ» و «فردرك جيمسن»، فإن الفئة الجديدة من الشغيلة العارفة «التكنوقراط» لها دور كبير في هذه الفعالية. أما القارئ فدوره ثانوي. إذ إنه مستهلك لا يشكل فاعلاً حقيقياً كما كان من قبل. لهذا، لم نرَ أن الجوائز تضع في اعتباراتها سعة فئة القراء. وفي حالات نادرة ذُكرت عينات ندرك منها أن المبيعات طاولت رواية بعينها لسبب أو لآخر: ولا تأتي (الجودة) على رأس هذه الأسباب. فلولا الرفض المجلجل عشية صدور «أمريكانلي»، ذلك الرفض لجائزة الدولة، لما حققت رواية صنع الله إبراهيم هذه المبيعات الكبيرة. كما أن «عزازيل» حققت مبيعات حسنة سنة صدورها (2008) قبيل نيلها الجائزة. وأضيف أن حقيقة تحديد الفترة الزمنية لصدور المطبوع يعني ضمناً (ثانوية) القارئ: فهو لم يدخل في اعتبارات التسنين، ولكنه يمكن أن يشارك في بناء مجموعة من الأعراف والتقاليد الفنية والأدبية وآليات الفعل الروائي: دعونا نتذكر أن ابن قتيبة لم يكن فريد القرن التاسع، لكنه حقق سمعة واسعة وأصبح له قدره وحضوره لالتحامه بإرادة المؤسسة الاجتماعية والسياسية. لهذا، كان لا بد لكتبه من أن تحقق حضوراً يتأكد في مجموع ما اقتبس عنه ومن مدوناته. وإذا اتفقنا على أنّ للتسنين شروطه، وأن التقادم له دوره في فرض هذا التسنين داخل مقبولات المؤسسة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فإن السنة الأولى من الإصدار تحقق فعلها التسنيني لاحقاً، لكنّ الإصدار الموفق، كرواية يوسف زيدان المارة الذكر، سيضع لبنات التسنين وهذا ما حصل: فلولا ذلك لما كانت رواية «دروز بلغراد» لربيع جابر تحقق فوزاً. صحيح أن لربيع جابر شغفه بمشكلات فعلية تاريخية أو ثقافية أو عصابية، ينطلق منها في بناء هادئ يحتمل أطياف الشك واليقين، لكنّ الكتابة الجيدة شيء، ونيل الجائزة شيء آخر. كما أن «اللجنة» قد تضم مصادفة أناساً بذائقة معينة: فيجري اختيار «بعد القهوة» للمحمودي لجائزة الشيخ زايد 2014. وإذ أوافق على أن الرواية تعيدنا إلى الريف وحياته ومشكلاته وتخرج على التكاثر المريب في الرويّ المديني، إلّا أنّها لا تبلغ رواية عبدالحكيم قاسم «أيام الإنسان السبعة» الصادرة عام 1969. وتجاري بدرجة أو بأخرى روايات محمد جلال. ولكن لذائقة اللجنة خياراتها. هذا لا يعني أن عناوين الروايات ثانوية: لا، فغالباً ما يكون العنوان عتبة فعلية للنص. لهذا، كان عنوان رواية ربيع جابر صادماً ومثيراً. وكذلك عنوان رواية يوسف زيدان «عزازيل». فالمناكدة القوية بين الشيطان والإنسان قديمة وأزلية، والإتيان بها عنواناً يوقد الريبة والفتنة والغواية. ويمكن أن يأتي العنوان في سياقات الاقتباس من القرآن الكريم صادماً هو الآخر، كما فعل عبده خال في روايته الفائزة عام 2010 «ترمي بشرر». وليس أمر هذا الاقتباس جديداً، فكان فؤاد التكرلي اختار عام 1980 «الرجع البعيد»، مذكّراً بما جاء في الذكر الحكيم: «إنه رجع بعيد» في الإشارة إلى المتشككين الكفرة الذين يرفضون فكرة البعث والنشور. ولم يكن عبده خال وفؤاد التكرلي يقدّمان غير تماه بعيد مع مجريات وحوادث وآليات بشرية تنطوي على تناسي البشر حدودَهم وأدوارهم في هذه الحياة، وانحدارهم إلى أسفل سافلين طمعاً أو عنفاً أو شغفاً بالسلطة والمال. وهكذا جيء بالجحيم إلى الأرض ومعه يتحول البشر إلى شياطين وأبالسة، ويكون الموت عملاً يومياً تنتهي عنده رسالة الديانات والرسل والعارفين والمثقفين لإرساء الحب والمودة والسلام: وبين «عزازيل» و «ترمي بشرر» ومن قبل «الرجع البعيد» خيط رفيع ينبغي أن يذكّرنا بمعنى التقاليد والأعراف، حتى وإن بدا الخيط واهياً. وبالمقابل، هناك داخل هذه الروايات، وكذلك في كتابات مقابلة احتوت «تجليات» الغيطاني وتفريعاته على سدرة المنتهى، خيط آخر يصطاد «إنسانية» ما عند البشر حتى في أشد أوضاعهم وحشية ودونية. لكنّ التسنين يحتمل آليات محدودة الفعل الروائي، فنحن نلاحظ مثلاً في روايتي رجاء عالم «ستر» و «طوق الحمام»، ورواية محمد الأشعري «القوس والفراشة» تردداً لثيمات وتقنيات لا تلغيها بلاغة النص عند الاثنين: فهنالك الغموض والعقدة والإشكالية و (بوليسية) الحدث والمفاجأة، وتقابل المحلي والغريب، وأحياناً اقتحام المتطرف المسكون بالتدمير والشهادة سكون الآخرين. وثمة أيضاً اكتشاف الشاذ والشهواني وتحويله إلى فعل متصل ومثير كما هو عند عبده خال وقليلاً عند سعداوي. وعلى رغم أن لغة (الجسد) لم تزل مغرية، فإن وقع الحاضر أخذ يفرض بصمات أخرى على الرواية: وعندما نطالع روايات الجوائز مجتمعة وكذلك تلك التي تليها في الترتيب يمكن أن تتشكل لدينا فكرة عن معنى التسنين. ومن دون شك، ستكون رواية الجوائز حقلاً خاصاً لا يمكن أن نتجاوزه عند البحث في التاريخ الفكري الحديث، أو في آليات السرد الحداثوي. لكنّ الأمر الذي لا بدّ من أن يستوقفنا هو أن «موضة» التحديث التي راجت في خاتمة الستينات، خمدت نسبياً أو تلاشت داخل التجارب الجديدة التي يشارك فيها مؤرخون وشعراء ودعاة وفنانون. وكل واحد من هؤلاء يجيء بما هو جديد نسبياً وفق وعيه وميله واختصاصه. كما أنهم جميعاً يبحثون اليوم خارج منظومة المادة المترجمة التي كانت قاعاً للمتن الكتابي منذ الخمسينات. وغالباً ما يجيء هؤلاء بما هو آني وملتبس ومدعاة للتأويل والتقول: فأين هي مدينة عبده خال هذه؟ وأين هذا الجحيم؟ وأي أساس اعتمده الأشعري في قصة بدت مكررة ومعروفة على أصعدة التطرف المتصاعد ومعتقدات صحبة تذكرنا بجماعة «داعش» وحسن الصباح؟ إضافة إلى أن التاريخ عاد ملتبساً هو الآخر، لا لسبب غيرَ أن الروائي دفع المؤرخ العادي بسرده التتابعي جانباً وجعل إنسانه الراهب مؤرخاً لشخصه أولاً وللكنيسة والآخرين ثانياً. لقد عادَ التاريخ مشخصناً. وهذه طاقة كبحت من قبل في تقاليد كتابة التاريخ تحت أقنعة الموضوعية وبلاغة العبرة. وعوداً إلى الخيط الرفيع الذي يخاتلنا في أية ظاهرة مستجدة، دعونا نتوقف عند الرواية التي ذكرت في معرض الإشارة إلى «عزازيل» ورواية سابقة بعقود ثلاثة هي رواية التكرلي «الرجع البعيد». والرواية المعنية هي لعبده خال، والتي اتخذت من مقتطع من آية كريمة في سورة «المرسلات» عنواناً لها. وكما ذكرت في دراسة بالإنكليزية حديثة جداً، فإن ظاهرة العنونة القرآنية قديمة للعارفين بتاريخ الكتابة العربية. وهي تدخل ضمن نهج كتابي اكتسب اكتنازاً وإرهاصاً أيام الدولة الفاطمية، ومن ثم الأيوبية فالمملوكية. وخصّ النقاد وفقهاء اللغة، ومنهم الثعالبي، وقبلهم جميعاً ابن طيفور، هذه الظواهر بدراسات نقدية مرّ عليها المحدثون مرور الكرام وهم يلوكون المتعارف عليه بين أعلام النقد الأدبي منذ القرن الرابع الهجري. ولكن، لندع هذا الأمر جانباً، ونتمعن في اختيارات عبده خال: إذ كان أكثر حدساً واستقراءً للظاهرة الأدبية من نقاده، لكنه كان أيضاً يراهن على مخيلة لجان الجوائز والقراء: فأيّ شخصية تصلح للاعتراف القذر من طارق فاضل، بطله وشريره؟ وأية شخصية تداعب مخيلة (النقاد) أكثر من ذلك وهي تستفز بواطن العارفين بأسرار فرق التعذيب والسجون والغدر تلك التي تمعن فيها ذلك المجتهد الروائي غالب هلسا في (السؤال) وهو يتقصى الروح المجرمة والعصابية التي تنزع بلواها وعجزها الجنسي بتعذيب الآخر؟ وأية شخصية تستخدم لغرض أساس هو إهانة ذكورة (المجلود) لا تذكرنا بفجيعة (أبو غريب) التي أريد لها إخصاء العراقيين؟ فالرواية تستدرج اللجان والقراء لأنها تستنطق ما يودون التشهير به وإعلانه عن طبيعة النظم الفاسدة القائمة على إخصاء الإنسان فكراً وإرادة. لهذا، جاء بذلك (التثليث) المعاكس (للقداسة - 18). ولكن بقدرة قادر كان طارق فاضل، ابن الحي الفقير الذي تصاغر أمام الدولة متمثلة بقصر السيد، يعرض لأفكار متعالية نسبياً تداعب (مخيلة) اللجان والنقاد، ليقول مثلاً: «الدين هذا النفق الذي يسلكه الجميع لتبرير الغايات النبيلة والحقيرة، يسلك طريقه الجميع للوصول إلى مقر المصنع الخلفي حيث تفصّل وتطرز الملبوسات لارتدائها في المناسبات التي تحتاج إلى الوجوه الصقيلة والعابسة - 19». أو أنه يبلغ استنتاجات يضعها دارسو الدول واقتصاداتها وسياستها ضمن ما يعدونه «نظرية سياسية» مسايرة لما بعد الأيديولوجية. يقول طارق فاضل: «وكلما بعدت عن المشهد [القصر والتعذيب] اكتشفت أن الحياة يصنعها: المعتوهون، المرتشون، اللصوص، الوصوليون، القوادون، الزناة، اللوطيون، طالبو السلطة، حائكو المؤامرات... هم من يقومون بدور الدفع مثلهم مثل المصلحين تماماً - 20». لنتذكر دائماً أن العولمة ستجيء بمزيد من الفساد لا لأنها تريد ذلك، ولكن لأن إفرازاتها تعني ضمناً تهدم الحواجز والقيم التي كانت تشد المجتمعات وتحميها: ولا غرابة في أن تبدو «العصابات» المدربة التي كانت تدعى «مرتزقة» من قبل وقد ألبست ثياباً جديدة لهدم ما يتبقى من اعتبارات. والذي أقوله إن رواية الجوائز ليست خارجة عن السرب، على رغم جدة مساراتها، لكنها قد تضع إصبعها على علل وآفات بجرأة لم تشهدها الرواية كثيراً. لكنها ستستميل الناقد وعضو اللجنة بهذه التنويعات على الجدة والتي ستتخذ مسارين: أولهما الإثارة الصادمة، وهي حسنة إذا ما أحيطت بإتقان؛ وثانيهما التخطي: و «التخطي» حميد للخروج على القواعد والتقاليد الصارمة، لكنه مربك إذا أصبح بعضاً من «عولمة» الثقافة وتشييئها وتسويف أركانها. لنتذكر أننا وبضمن اقتصادات سوق الثقافة بتنا نشاهد في برامج الفضائيات تكراراً وتقليداً مشوهاً للبرامج الأميركية. وتزيد نسبة «المكررات» على 80 في المئة من المجموع الكلي للبرامج المعروضة، يا للعبقرية! لكنّ مجموع ملاحظاتي لم يواجه صراحةً إشكالية النمو الطافح في الفن الروائي. ونعلم أن مثل هذا النمو حميد، لا سيما أن الأطراف العربية أخذت تنتقل إلى المركز والصدارة، بحكم الدعم المتزايد للكتابة والتأليف. وعلينا أن نتذكر أن هذا النمو يبقى ضئيلاً مقارنة بالثقافات الأخرى. وأخذت المراكز السابقة «مصر، العراق، لبنان، سورية» تخسر أولوياتها في السوق الثقافية لأسباب اقتصادية وسياسية، لها علاقة باقتصادات السوق والعولمة مما لا مجال للبحث فيه. ولنعد إلى رواية الجوائز: لقد جاءت رواية الجوائز التي نالها كبار ومغمورون في زمن تصاعد وتأثير العولمة والاقتصاد «الحرّ» وما رافقه من تفكك طاول الدولة الوطنية تحت وطأة النظام الشمولي والتسلط الدولي. لهذا، يصعب أن نتوقع نمواً متوازناً في الحياة الثقافية ونتاجها. ويمكن رواية الجوائز أن تعطي شحنة للحركة الثقافية، وهو أمر تشهد له وقائع الفوز التي جعلت من أسماء معروفة تحصد جائزتين أو أكثر، بينما كان بعض الجدد في الساحة يجدون طريقهم إلى الفوز أيضاً، وهو أمر يستحق الثناء. ولكن، وقبل ذلك علينا أن نتذكر أن الجوائز تتفاوت غاية ونهجاً، ويصعب وضعها جميعاً في خانة واحدة: فالجوائز المستحدثة في الألفية الثالثة معنية بالنص الواحد، وقلما تعنى بالنتاج الكلي للكاتب. ولهذا الأمر حسناته في دعم التأليف والكتابة. وثمة جوائز معنية بالنتاج الكلي وأثره في تكوين ذائقة الأجيال، وتتصدر هذه جائزة العويس منذ 1988. دعونا نتوقف عند حسنات النهجين: فالأخيرة تدعم تكوين الاتجاهات الأساس في الثقافة وإرساء دعائمها، وجوائز النص الواحد تذكي نشاط التأليف وتفتح الطريق أحياناً أمام المستجدين بينما لا تغلق الباب أمام المتمرسين. لكنّ النهج شيء وبلوغه أمر آخر: وهنا تبرز أهمية اللجان وحساسية تشكيلها: فأصحاب الأمر مدعوون دائماً إلى الدقة والموضوعية في الاختيار. ولاحظ من كتب في أمر الجوائز انضواء أسماء لا ناقة لها ولا جمل في لجان الرواية مثلاً. وهذا الأمر نادر، لكن تجنبه أحسن والتنزه من مرض «الشللية» مطلوب في جوائز ثمينة. أما الاتهام الآخر الذي طاول رواية الجوائز فيخص السياق العام للظاهرة. إذ قرأت من يربطها بعولمة الثقافة وتذويب هويتها. لكني لا أتبين في الحالات المنفردة ما يدعم الفرضية ويزكيها: لكنّ الظاهرة - شأن غيرها في وسائل التواصل والفضائيات - تقع في سياق الإنتاج السلعي. أما واقع الثقافة المعولمة فحاصل وقائم. وهنا تبرز ثانية أهمية المؤسسات الراعية ووضوح نهجها وغايتها وبرامجها. فالثقافة العربية تعيش اليوم إشكاليتها وأزمتها بحكم التحولات الكبرى في التواصل الاجتماعي والمعلوماتي والنقلة الكونية في الاقتصاد وما يعنيه ذلك من تأثير كلّي في التكوين الاجتماعي والفكري والثقافي العربي. ومن دون سياسات واضحة المعالم وتخطيط دقيق للمسارات التي تريدها الدولة العربية لضمان كيانها وديمومتها ستكون فعالياتها المختلفة عرضة للتحول إلى استعراضات واهية تعوزها في الأمد البعيد الركائز المتينة اللازمة للظاهرة الثقافية بصفتها هوية قومية في عالم لم تدِر تحولاته الثقافات النافذة. * أستاذ الأدب العربي والمقارن في جامعة كولومبيا - نيويورك