نقول عن النهضة إنها حركة اجتماعية فكرية تستهدف الرجوع إلى زمن مرجعي أو إلى نموذج ثقافي-روحي تجد الحركة فيه سبيلاً إلى تجاوز واقع لا ترتضيه. ربما وجب أن نستدعي دلالة اللفظة العربية «السقطة» أو «السقوط» حتى نتبين معنى النهضة أو النهوض. لذلك نجد كثيرا من مفكرينا العرب المعاصرين يقرنون بين النهضة وبين اليقظة. ولو أننا نظرنا في مرحلة من تاريخ الشعوب يكون فيها الحديث عن النهضة لوجدنا عناصر أساسية ثلاثة تلتقي عندها تلك الحركات جميعها. تستوقفنا أمثلة ثلاثة تختلف في الزمان والمكان ولكنها تلتقي عند العناصر نفسها فهي تجتمع حولها، كما ذكرنا: النهضة الأوروبية الغربية في القرن السادس عشر، والنهضة اليابانية في الفترة التي تشمل القرن التاسع عشر، والنهضة العربية الإسلامية (النهضة العربية الأولى). أما العنصر الأول الذي تلتقي عنده النهضات الثلاث المشار إليها فهو اعتمادها عصراً مرجعياً ترجع إليه. فأما النهضة الغربية في القرن السادس عشر فقد كان عصرها المرجعي هو الفترة اليونانية - الرومانية، واليونانية خاصة. كان المطلب عند رجال النهضة تلك هو العودة إلى النصوص الأصلية التي كانت ترى أن رجال الكنيسة قد أفسدوها بتدخلاتهم فأفرغوها من روحها العظيمة وحولوها إلى محفوظات بعدما صبغوها بصبغتهم اللاهوتية. لم تكن حركة الإنسية التي ارتبطت بالنهضة الأوروبية سوى جهد متصل لإعادة الصلة بالفكر اليوناني-الروماني باعتباره الأساس النظري والروحي البعيدين اللذين يلهمان الفكر والعمل في العالم الغربي. وأما رجال الدعوة اليابانية إلى النهوض ومجاوزة حال التخلف الشديد عن العالم الغربي فقد كانت لهم «سلفيتهم» (كما يوضح ذلك الباحث محمد أعفيف في دراسته عن «أصول التحديث في اليابان» الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية). وأما بالنسبة لمفكرينا في عصر النهضة فيصح القول إن الدعوة إلى الرجوع إلى السلف الصالح كانت في حقيقتها دعوة فيها تركيب ذهني أو «نموذج ذهني»، كما يقول ماكس فيبر، يجمع بين عصور عدة ليستخرج منها السلف القدوة. فالسلف يعني، من جهة أولى عصر الخلفاء الراشدين وصدر الإسلام متى اعتبرنا الأمر من جهتي الممارسة الأخلاقية والسلوك الديني القويم. والسلف يعني، من جهة ثانية، زمان العباسيين الأول كما يرمز إليه بيت الحكمة وحركة الترجمة والاقتباس الكثير من الفكر اليوناني بل وتبيئته في المجال الإسلامي ما سمح بصياغة نظريات النحو والبلاغة ومكن من تطوير مباحث علم الكلام والفلسفة وأصول الفقه وكذا مختلف العلوم الإسلامية في مراحل البناء والتأسيس أو ما عرف بعصر التدوين. والسلف الذي كان التوق إليه هو أيضاً زمان الأندلس: زمان الحوار والتسامح والتعايش بين الأديان والثقافات المختلفة، زمان ابن رشد والشاطبي وكبار علماء الإسلام في العصر الوسيط. وأما العنصر الثاني في النهضة والضروري لها فهو التوافر على مشروع ثقافي، مشروع تتضح فيه الأهداف والرؤية معاً. والمشروع الثقافي الشامل، كان أيضاً جامعاً بين النهضات الثلاث التي أشرنا إليها. تدل على ذلك حركات إحياء ما اندثر من المؤلفات القديمة أو طواها النسيان. كذلك نجد، على سبيل المثال توجه محمد عبده ورفاقه ثم تلامذته إلى طباعة ونشر النصوص الإسلامية الكبرى بعدما كان النسيان قد غلفها دهراً طويلاً وبعدما كانت تلك النصوص المؤسسة في الثقافة العربية الإسلامية قد تراجعت لتسود كتب التلخيصات والحواشي والورقات المدرسية التي تنظم في صورة أرجوزات وحواش. كذلك تم نشر مقدمة ابن خلدون والاعتصام و «الموافقات «للشاطبي وسواها من الأمهات. وفي مواكبة لحركة إحياء التراث الأصلي قامت حركة واسعة من الترجمة من اللغات الأوروبية بهدف التعرف إلى المصادر الحية للمعرفة البشرية والإطلاع على النصوص التي تذكي الملكة النقدية وتفتح آفاق المعرفة الشمولية. وحركة الإنسية التي مهدت للعصر الحديث في أوروبا الغربية، كانت في جوهرها حركة تحرير للعقل والإنسان من ربقة السيطرة الكنسية وبعضاً من مشروع ثقافي شامل، إن لم يكن صريحاً فقد كان مشروعاً ضمنياً جماعياً. وليس الشأن في اليابان الحديثة بأقل وضوحاً وقد يكفي أن نعرف أن عصر الميجي، والعقود السابقة عليه، شهدت حركة ثقافية هائلة تم فيها نقل المئات من المؤلفات الغربية، في أصناف متنوعة من المعرفة، إلى اللغة اليابانية. وأما العنصر الثالث الذي تكشف قراءة التاريخ البشري الشمولي عن وجوب توافره في كل نهضة فهو ما يصح نعته بالحامل البشري. لا بد للمشروع الثقافي (عماد النهضة وركيزتها) من وجود رعاة للثقافة وحماة للفكر والمعرفة. النهضة العربية الثانية ما النهضة العربية الثانية؟ ما إمكاناتها وما مقوماتها؟ وما الشأن في هذا الذي ننعته بالربيع العربي اليوم وما صلته الممكنة بهذه النهضة الثانية؟ لا غرو أن العالم العربي قد عرف رجة قوية مست جوانب منه فاختلفت في الشدة والوضوح وذلك بعد سقوط جدار برلين وما مثله ذلك السقوط من دلالة على التضعضع الذي أصاب المعسكر الشيوعي والدول التي كانت تدور في فلكه. كذلك أخذت أصوات ترتفع مطالبة بالديموقراطية، في معنى التعددية السياسية والحياة البرلمانية على النهج الليبرالي، وكذا بحقوق الإنسان. وبالتالي تنادي بما كان يعتبر من متعلقات الرأسمالية وملحقاتها وهذه كانت، في الخطاب السياسي الذي كانت العديد من الأنظمة الشمولية في الوطن العربي تروج له، تعتبر فكراً يتناقض مع مطالب الوحدة والاشتراكية ومحاربة الإمبريالية في كل تجلياتها. أخذت معالم عالم جديد ترتسم في الأفق إذن، معالم ساهم في تطويرها ما شهده العالم من تحولات وثورات عميقة في ميادين التواصل والإعلام وما كان من سعة انتشار فضائيات وقنوات اتصال جديدة. ربما وجب التنبيه على الأثر المباشر للثورة الإعلامية أولاً ثم للثورة الرقمية ثانياً على مجموع دول العالم العربي. فعلى سبيل المثال باءت محاولات الأنظمة الشمولية، في ذلك العالم، بالفشل في فرض الرقابة على أدوات التواصل الجديدة وعلى الشبكة لسبب، ربما كان أساسياً، وهو أن تلك الأنظمة كانت في حاجة أكيدة للشبكة لدواع أمنية، من جهة أولى ففيها تطوير لوسائل الاستعلام والرقابة من حيث التوافر على كم هائل من المعلومات، ولأسباب تتصل، من جهة ثانية بالاقتصاد والتجارة وعالمها وأخصه التبادل الدولي. هل يعني كل هذا أن «شروط النهضة» قد غدت اليوم مكتملة في العالم العربي وأننا، بموجب ذلك، قد أصبحنا على أعتاب النهضة الثانية المأمول بلوغها؟ في البلاد العربية التي شهدت حركات الانتفاض (في مختلف صورها وتجلياتها) يكاد يكون بين الدارسين والملاحظين شبه إجماع على نعت تلك الحركات بالعفوية أو التلقائية. والعفوية، كما هو معلوم، تعني انتفاء التخطيط والتدبير، والتلقائية تعني غياب القاعدة التي تتصور الأهداف بدقة ووضوح وترسم من أجل بلوغها خريطة دقيقة وواضحة للعمل السياسي الدقيق والمنظم. الحق أن مجمل الأحزاب السياسية في الوطن العربي كانت في حال من المفاجأة تارة وغياب القدرة على الاستيعاب والفهم تارة أخرى. ما حدث هو أن الكثير من الأحزاب والقوى السياسية المنظمة حاولت احتواء تلك الحركات (هذا ما نجده، على سبيل المثال عند بعض الأحزاب والقوى السياسية في المغرب إزاء حركة 20 فبراير). نعم، قيل الكثير عن الشبكة وعن دورها في التجييش وفي التنظيم، وكتب الكثير عن الشباب وعن العمل الافتراضي وعن صلة هذا بذاك. غير أن الدهشة والمفاجأة ظلتا مهيمنتين على الفهم سيدتين في الانفعال مع تلك الحركات سلباً وإيجاباً. واليوم، بعد أن أكملت كل حركات الانتفاض العربي سنتها الأولى لا تزال محاولات الفهم متعثرة مضطربة. لقد كان الفعل التاريخي سابقاً على التصور النظري. لسنا مع الذين يقولون بالصدفة المحض في الفعل البشري ولا من الذين ينكرون على العقل البشري قدرته على الفهم والإدراك بل وعلى نوع من استباق ما يمكن أن يحدث في نوع من التوقع المنطقي القابل للتعليل؛ إذ إن التسليم باعتقاد مماثل يعني الأخذ بسبيل العبث التي تخالف طبائع المدارك والعقول وتسلم الناس إلى حال من السلبية والتواكل اللذان يجردان الإنسان من نعمة العقل التي حباه الله بها ولكننا نقول إن الوعي والفهم قد يتقدمان على الفعل التاريخي آنا وقد يتأخران عنه حيناً آخر ولكل من الحالين مبررات. حركات الانتفاض العربي حركات قادها الشباب، أولاً وأساساً والتحقت بها فئات عمرية أخرى تجاوزت مراحل الشباب. كان الأمر كذلك لسببين واضحين: أولهما معطى إحصائي، فالشباب يمثلون من سكان الوطن العربي فئة عمرية تربو على الستين في المئة. وثانيهما اجتماعي، فالشباب في الوطن العربي هم الفئة الاجتماعية الأكثر عرضة للغبن والظلم وسوء الفهم. الشباب العربي، في مظنة غالبية كهول العالم العربي وشيوخه، منصرفون عن السياسة انصرافاً كلياً، قليلو الاحتفال بالشأن العام، منشغلون بالتافه والثانوي من قضايا الأمة والوطن والحال أن الشعارات التي حملتها حركات الانتفاض العربي تكذيب جازم لكل تلك الأحكام. نحن إذ نتأمل في تلك الشعارات فنحن لا نتبين أنها لا تبتعد عن السياسة فحسب بل نحن ندرك أنها، في العمق، لا تخرج البتة عن السياسة. المطالبة بالحرية، والعدالة الاجتماعية، ورفض الفساد في تجلياته المالية والإدارية والقضائية، ومطالبة رموز الفساد بالرحيل كل هذه مطالب سياسية وإن لم يكن أصحابها يقصدون العمل السياسي في معناه المعتاد الذي يستهدف بلوغ السلطة التنفيذية وامتلاكها. لكم تبدو الآن كل التهم التي كانت تكال للشباب تهماً زائفة والأحكام التي كانت تصدر في حقهم، جزافاً، أحكاماً خالية من السند والتبرير. بلغت الأحوال، في العالم العربي، درجة عالية من القابلية للتحول الكيفي الذي يقود إلى الانفجار وأصبحت القراءات في أغلبها قراءات متجاوزة، خالية من المعنى. نعم، هنالك بالفعل جراثيم نهضة عربية ثانية ترتسم ملامحها في الأفق، نهضة هي في الوقت ذاته استئناف ومجاوزة لعصر النهضة كما شهده الفكر العربي الإسلامي في نهايات القرن التاسع عشر وفي العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين. جراثيم يمكن أن يكون عنها الإيجابي المثمر مثلما يمكن أن تكون حبلى بالسلبي العقيم. البناء الثقافي نجدنا الآن، مرة أخرى أمام سؤال جديد: ما نصيب الثقافة والبناء الثقافي في حركات الانتفاض العربي نكرر القول إن السؤال ليس سؤال تشكيك وليس، بطبيعة الأمر، سؤال تشف بل إنه سؤال إشفاق وإيمان معاً. ربما وجب التعبير عن الفكرة بكيفية أخرى فنقول: إن الحركات الشبابية أو حركات الانتفاض التي كان الشباب وقودها هي أشبه ما تكون بعمل التنبيه والإيقاظ، إيقاظ الهمم وتنبيه الضمائر العربية غير أنها لا تملك أن تتجاوز هذين الدورين، وهما بطبيعة الأمر دوران عظيمان ضروريان في الفعل التاريخي ولكن القضية تظل قضية وسائل وإمكانات منطقية وطبيعية. لقد قلنا، أكثر من مرة، عن «حركة 20 فبراير» في المغرب إنها توجد أمام اختيارين اثنين لا نرى لهما ثالثاً. فإما أن تغدو الحركة عملاً سياسياً منظماً وملتزماً بالقنوات الطبيعية للعمل السياسي (= الحياة الحزبية ومقتضياته المعلومة، إما بتأسيس حزب سياسي وإما بالنفاذ في الأحزاب السياسية القائمة عن طريق الانتماء المنظم العادي والنضال المشروع)، وإما أن تعلن تلك الحركة أنها قد استنفذت الأهداف التي قامت من أجلها. لا يملك العمل العفوي ولا التلقائية أن يقدما أكثر مما قدمته الحركة بعمل الاحتجاج ورفع العقيرة بالمطالبة بما كانت الشعارات التي تحملها تعبيراً عنه. أحسب أن ما نقوله عن هذه الحركة في المغرب يقبل التعميم إلى حد بعيد بالنسبة لأقطار عربية أخرى. تلك مسألة تتعلق، من وجهة نظرنا، بطبائع الأشياء. ربما كانت ترجع أيضاً إلى ما يصفه علماء الاجتماع بتقسيم العمل الاجتماعي، أما ما عدا ذلك فخلط وحيرة واضطراب. في العمل السياسي المنظم والمشروع تكون البداية السليمة، الطبيعية والمنطقية أيضاً، وفي هذا الطريق ترتسم الملامح الكبرى التي تدل على سبيل العمل الثقافي. فيصل التفرقة بين الانتفاض الحق الذي يفيد، أولاً وأساساً، إرادة تغيير ما في النفوس ويستهدف النهضة في معناها الكامل وبين حركات القول بالتغيير إذ تكون خلواً من الرؤية الواضحة والبرنامج المعلوم يكمن في الإدراك الحق للثقافة ومستلزماتها. نصير إذاً إلى نتيجة بسيطة جداً، بساطة كل الأشياء العظيمة في الحياة: لا تملك النهضة، في معناها العميق، أن تنفك عن الثقافة وعن المشروع الثقافي فهي لا تكون ولا تدرك مع غيابهما. سلسلة «في الفكر النهضوي الإسلامي» التي اختطتها مكتبة الإسكندرية وقطعت فيها أشواطاً طيبة مباركة، تمثيل لهذا المشروع الثقافي الذي نشير إليه. الحق أن المشروع أعم من ذلك وأشمل والصدق في القول يستدعي التصريح بأن عمل مكتبة الاسكندرية إسهام في النهضة العربية الثانية وفي الممهدات الضرورية لها. ما قيمة هذا الإسهام، بالنظر إلى طبيعة المصنفات التي تمت إعادة نشرها وإلى الأخرى التي تخطط لها في حدود ما نعلم؟ يكمن الجواب عن السؤال في الانتباه إلى القيمة التنويرية للمصنفات التي خلفها رجال النهضة العربية. ما أروع نصوص تلك الفترة الزاهرة وما أشد دلالتها على التنوير وعلى إرادة الإعلاء من قيم العقل والحرية ومن تقدير الكرامة الإنسانية ومن الفهم المستنير للدين الإسلامي. ذلك ما تنطق به، على سبيل التمثيل فحسب ما كتبه الشيخ رافع رفاعة الطهطاوي في «مناهج اللباب المصرية في مباهج الآداب العصرية وفي «المرشد الأمين للبنات والبنين». وإرادة اطلاع السباب على ما عند الغرب الأوروبي مما يستحسن الأخذ به هو ما نجده عند أحمد فارس الشدياق في «كشف المخبا عن فنون أوروبا وعند خير الدين التونسي في «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك وهو ما نجده، على نحو يختلف عن ذلك قليلاً عند عبد الرحمن الكواكبي في «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد وعند الطاهر الحداد في «امرأتنا بين الشريعة والمجتمع والتنبيه إلى ما كان المسلمون اليوم في حاجة إلى استحضاره من درس الشريعة، وقد كان فهمها على الوجه الصحيح هو ما نجده عند علال الفاسي في «دفاع عن الشريعة» وفي «مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها» وفي مؤلف الطاهر بن عاشور الذي يحمل نفس العنوان على وجه التقريب وهو ما نجده في مؤلفات مصطفى عبد الرازق وعلي عبد الرازق وفي ما كتبه علماء الزهر الأفذاذ أمثال الشيخ جاويش والشيخ طنطاوي جوهري في فهمه للقرآن الكريم - وهذه كلها أمثلة وشواهد لا تعني الإحاطة ولا تفيد الحصر. ليس في الكلام عن إسهام مكتبة الاسكندرية في التمهيد للنهضة الثانية مغالاة ولا إسراف في القول. قد يلزم أن نعلم أيضاً أن ما اختطته المكتبة من مشروع تنويري (على نحو ما نشير إليه) عمل سابق على حركات الانتفاض التي عرفها الشارع العربي في تونس ومصر، وعلى ما نقول أدلة تلتمس في محاضر المكتبة ونؤكدها في جلسة كنا حاضرين فيها في المكتبة في حزيران (يونيو) من السنة الماضية.