من اللافت للنظر أن الإمام الطحاوي، رحمه الله، في عقديته المشهورة بالعقيدة الطحاوية ذكر من صفات أهل السنة «المسح على الخفين»! على رغم أنها مسألة فرعية لكنها ذكرت كثيراً في كتب العقائد، يقول ابن تيمية، رحمه الله، في منهاج السنة «حتى أن سفيان الثوري وغيره من الأئمه يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة، لأنه كان عندهم من شعار - بعض الفرق -»! مع أن الجهر بالبسملة ليس مسألة فرعية فحسب بل فيها خلاف بين علماء أهل السنة كذلك، وحين نحاول البحث في «اللامفكر فيه» في هذه العبارة فإننا سنصل إلى استنتاج أن الخصومة قد تدفع بالأفكار المتقابلة بأن تصعّد الخلاف الفرعي و«السائغ فيه الخلاف» إلى أن يكون خلافاً عقائدياً، أو بعبارة معاصرة «قضية مصيرية»، وهكذا حين تتأزم الخصومة بين التيارات الفكرية فإنها ستجعل خلافها السائغ فيه الاجتهاد إلى أشبه ما يكون بجدار برلين، أو صندوق «باندورا» في الميثولوجيا الإغريقية! وحين يعود القارئ الكريم للأبعاد التاريخية والسوسيو - ثقافية في تلك الحقبة فإنه سيتفهم لماذا تم تأزيم مثل هذه الفروع كأصول عقائد، وهذا ما يعبر عنه حسن حنفي بأن المعتقدات لا تفهم في حد ذاتها، بل من خلال المعارك السياسية والثقافية التي تحتف بها. بالنظر في عصور الازدهار المعرفي الإسلامي كان الخلاف فيها منحصراً في جانب العقائد، لكن العقل التشريعي الفقهي كان متحرراً وأكثر تقبلاً للمخالف، ولذا كان أكثر الفقهاء ونقلة الفقه وأصوله من مدارس عقائدية مختلفه مع أهل السنة. وحين نقارن ذلك بالمشهد المحلي الحاضر، فإننا سنجد أن العقلية الفكرية والثقافية المحلية هي امتداد لمرحلة الأفول المعرفي المنتجة للتعصب المذهبي وشيوع التقليد والتعصب لأقوال الرجال على حساب الدليل، والأغرب من ذلك وفي مشهدنا المحلي القائم فإن الخلاف قائمٌ في جوانب فرعية يسوغ في الخلاف لكن الأجواء «اللاصحية» للخلاف هي التي وصلت بنا للتصفية الفكرية للآخر، ومحاولة إسقاطه وإقصائه وقولبته، ف«الجنادرية» و«معرض الكتاب» و«قضايا المرأة» تقع في دائرة الخلاف السائغ الذي انتقل لدائرة «المعتقد» وابتلاء الناس في إيمانهم أو عقولهم ومن القضايا المصيرية التي ليس فيها إلا حق مطلق واحد! فالعالم اليوم «مسطح»، كما يعبر توماس فريدمان، والمعرفة ليست حكراً على مجموعة من دون أخرى، بل هي متاحة للكل، وبإمكان أي باحث معرفي أن يتوصل للمعرفة من خلال هاتفه النقال بكل سهولة! ومن هنا تظهر لنا إشكالية المعرفة، أو التحديث في واقعنا السعودي، فنحن اليوم بحاجة إلى عقل «منتج» لا إلى عقل «مستنسخ»، فمجرد التواصل مع المعارف والتراث لا يكفي لبناء منظومة معرفية فاعلة! وللتمثيل على ذلك وعطفاً على مقالتي المنشورة في صحيفة «الحياة»، بتاريخ 22 - 2 - 2012، فإن التيار السلفي المحلي عقل «مستنسخ» في أكثر تجلياته، فعلى رغم قدرته على التواصل مع التراث الإسلامي إلا أنه يواجه إشكاليات كبيرة في تحقيق المناط وتنقيحه وإنزاله على الواقع القائم، فليست الخلفية المعرفية المتماسكة كافية لأن نسقط كل هذه المحفوظات على حياتنا اليوم، وليست عملية استنساخ أقوال السابقين وإسقاطها على الواقع القائم من دون النظر في سياقاتها التاريخية والاجتماعية بعملية بناء بل هدم في كثير من الأحيان! وفي الناحية الأخرى فإن التيار الليبرالي، على رغم إطلاعه الواسع وتواصله مع العقل الغربي لكنه كذلك يعاني من إشكالية الإسقاط والاستنساخ ما يُظهر منتوجه المعرفي مشوهاً في كثير من الصور ومستحيل التطبيق، وهنا أود أن أسجل بأن العقل السلفي تقمص العقل الإسلامي في حال أفوله، فمناهج الكليات الشرعية والمجالس العلمية تعتمد على إنتاج الحقبة الزمنية التي طغى عليها التقليد وأصبحت الشروح والملخصات تعبر عن الفكر الشارح أكثر من الفكر المشروح! وفي المأزق نفسه وقع التيار الليبرالي، الذي حاول تقمص العقل الغربي حال أفوله، فالحياة الغربية المادية الآن ليست نتاج العقل الأوروبي الذي أحدث الثورة المعرفية، فالانفلات الأخلاقي المادي الغربي اليوم ليس من مخرجات ما كتبه بيكون وديكارت وكانت وهربرت سبنسر وسبنيوزا وفولتير... إلخ. حين أذكر هنا ثنائية السلفي/ والليبرالي أو اليمين/ اليسار، فإنني أقوم بذلك من ناحية إجرائية ولا أعني بذلك المضامين الأيديولوجية لهذه الثنائيات في الفهم الغربي، ولازلت أتحفظ على هذه التسميات ومدى مقاربتها للواقع، وعلى كلِ فحين تحدثت في مقالتي السابقة بأن التطرف في التيارين الإسلامي والليبرالي كان نتيجة العراك الفكري الحادث بينهما فهذا صحيح لكنه ليس المسبب الوحيد، فالتطرف ليس أحد مخرجات التعارك الفكري بين السلفي والليبرالي فحسب، بل هو أحد مخرجات التعارك الفكري بين السلفي والسلفي وبين اليسار واليسار! فهناك مجموعات داخل وخارج التيار السلفي تطرح نفسها بديلاً عن التيار السلفي، وتقدم نفسها على أنها الأنموذج الأقرب للفكر الإسلامي، والحال نفسها تحدث داخل المجموعات الليبرالية! وهنا يجب أن أؤكد بأن التطرف له تشكلات مختلفة، وربما وجد له ما يبرره، وأبرز ما يبرر وجود التطرف السلفي/ الليبرالي في ساحتنا عدم قدرة الاتجاه السلفي التجديد في الفكر الإسلامي ومواكبة الواقع المتطور، وتوقف التيار الليبرالي عند «الانبهار» بالعقل الغربي المُنتج والرغبة في استنساخه بكل تشوهاته التي تحمل في رحمها موت الغرب، كما يعبر «باتريك بوكانن»، فالذين يمتلكون الثقة في ما يؤمنون به لا يجدون غضاضة في مناقشة ومحاورة الآخر والتعايش معه وربما مراجعة أفكارهم ومناهجهم. إن إتاحة الساحة الفكرية للأصوات المتطرفة سيعود بنا للوراء، فالعالم اليوم يتقدم حتى على مستوى نقاشه المعرفي والفكري، فالمتطرفون بأفكارهم وهم يتنقلون من موقع إلى آخر يعبرون عن نمط من الوعي المزيف، الذي ينسى فيه الشيخ/ المثقف دوره ووضعيته وطبيعة موقعه، ومن هنا فإن الحل من وجهة نظري هو أن تُدعم الآراء الوسطية «المغيّبة» التي لم تجد لها متسعاً في ظل الواقع المتأزم، فاليوم هناك مجموعات كبيرة من الشباب المثقف المعتدل «اللا منتمي» الذي ربما تخرج من مدارس فكرية مختلفة لكنه يتفق على قواعد مشتركة تنطلق من أهمية التحديث والتجديد، والاهتمام ببناء مؤسسات مجتمع مدني يؤمن بالمشاركة الوطنية واحترام الآراء المخالفه، لكنّ على هذه المجموعات أن تعي أنه يجب أن تبذل جهداً أكبر في إعادة قراءة كثير من الأفكار والمنهجيات التي شكلتها النخب الفكرية، لأن البحث والتجديد في هذا الميدان هما المهمة الكبرى، لأنها تقع في مجال المعارف التي تشكل أرقى درجات الفكر. فنحن اليوم نعبد رباً واحداً ونتشارك ديناً ووطناً وقبلةً واحدة، وهذه القواسم المشتركة تحملنا المسؤولية، فالملك عبدالله بن عبدالعزيز حين رفع شعار الإصلاح كان أول ما وجه به الدعوة للحوار الوطني، فهو يؤمن بأن الحوار والالتقاء تمثلان الوسيلة الأكثر فاعلية لإنماء الاعتدال، وهذا ما يجب أن ينشر على مستويات شعبية وحكومية أخرى عبر المؤسسات التعليمية والنشاطات المجتمعية الأخرى، فالاختلاف نزعة بشرية وسنة كونية قائمة ما قامت الدنيا، والسعى لإلغاء الاختلاف سعيٌ للمستحيل، لكنّ المتعين هو توظيف هذا الاختلاف في استئناف التجديد والمعاصرة، وإعمال أدبيات الخلاف والخصومة، فالتشريع الإسلامي وحتى النظم المعرفية الغربية تؤمن بحرية الكلمة والفكر. فالاختلاف إذاً في نهاية الأمر كظاهرة إذا ما نظر إليها من ناحية تاريخية فإنها عبارة عن عملية للتكيف والمقاربة مع المناهج والأفكار الوافدة، أو الماضية، فالتاريخ تصنعه القوى المتصارعة في الوسط، كما يعبر محمد عابد الجابري، رحمه الله، فالمجموعات المثقفة التي تتحرك في الوسط يجب أن تسهم في إعادة قراءة الوافد والتاريخي وفق الثوابت الدينية والآليات والمناهج الحديثة في محاولة للخروج بصورة معرفية جديدة تجمع بين التراث الإسلامي والواقع الحديث، وهذه هي مهمة العقل المجتهد، الذي ربما خالفه أهل عصره نتيجة عدم قدرتهم على النظر الكامل والمقنن لعلوم الشرع والعلوم الإنسانية المعاصرة، وحين يقوم المجتهد/ المعتدلون بغربلة الدوائر المعرفية المختلفة والبحث عن الحكمة في رأي غيره، فإننا سنتوصل إلى تفتيت التطرف أو إذابته في الآراء المعتدلة. إنّ إعمال الإيمان بأن الحكمة ضالة المؤمن، وبأن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، وغيرهما من المفاهيم والقيم الإسلامية والإنسانية في الخلاف وممارسة ذلك على صعيد خلافاتنا المعرفية والفكرية هي الطريق للالتقاء عند المنطقة الوسط، وتوظيف اختلافاتنا توظيفاً علمياً وعملياً سعياً في تقديم صورة جديدة للمثقف/ الشيخ. * مستشار قانوني. [email protected] magedAlgoaid@