إذا نظرنا إلى واقع القصة المغربية اليوم، فإننا نجد أنفسنا أمام بئر تزداد عمقاً، وتعد بمياه كثيرة. لقد مرّ زمن غير يسير على هذا الجنس الأدبي في المغرب، و أصبحت مدونة القصة المغربية اليوم، أكثر نضجاً، وحالها أصبح أفضل من حالها في دول عربية عدة. ولعل هذا الأمر يرجِعُ بالأساس إلى التراكم المهم الذي حقَّقَتْهُ النصوص القصصية المغربية وعديد الأسماء التي تكتب في هذا المجال منذ الستينات مثل إدريس الخوري والمرحومين محمد زفزاف ومحمد شكري وخناثة بنونة وعبد الكريم غلاب... مروراً بأحمد زيادي وأبي يوسف طه وصولاً إلى نصوص زهرة زيراوي ومصطفى المسناوي وأحمد بوزفور الذي يُعتبر اليوم أهم اسم يمثل القصة المغربية ويرسم ملامح شخصيتها الأثيرة، ثم بعد كل هؤلاء، كتّاب الجيل الجديد الذي برعوا في هذا الجنس وأولوه كل العناية. قوة هذه المدونة، ترجع أيضاً، إلى القراءات النقدية والمؤلفات النظرية التي تأمّلَت واقع (وآفاق) هذا الجنس اللعوب الهارب منذ الستينات حتى الآن، والتي لا يزال القارئ يتذكر من بينها أعمال نجيب العوفي وإدريس الناقوري، مروراً بعبد الرحيم مؤدن ووصولاً إلى أعمال زهور كرام وعبد الرحيم العلام وعبد العاطي الزياني وسعاد المسكين وعبد الرحمن التمارة. لكنّ إيقاعاً جديداً، رَسَمَ خلال السنوات الأخيرة، وبإصرار، ملامح النص المغربي ورَفَدَهُ بعطاءات جديدة. نتحدّث هنا عن الفورة القصصية التي عَرَفَها المغرب خلال العشر سنوات الأخيرة، حيث تعدّدت الإصدارات وأمطرت البيانات القصصية من كل حدب، وتمّ تأسيس العديد من الإطارات (الكادرات) التي تهتمّ بالقصة القصيرة، وتنوّعت طرائق اشتغالها وانتبه مؤسسو هذه الإطارات إلى أهمية التوثيق، فنُشر الكثير من المجموعات وأقيمت الملتقيات الكثيرة بحيث أصبح القصاصون المغاربة يشكلون لُحمة واحدة. ومع أن القصاصين لم يستطيعوا بناء إطار واحد يجمعهم حتى الآن فهم انتظموا في إطارات استطاعت الانتصار لهذا الجنس وتقْويّته مثل مجموعة البحث في القصة القصيرة - التي يُشرف عليها القاص أحمد بوزفور والقاصّان عبد المجيد جحفة ومصطفى جباري- والتي أفرَدت ولا تزال مجلة متخصصة في القصة هي «قاف صاد» ونشرت العديد من المجموعات القصصية وترجَمَتْ أعمال قصاصين كبار وأنطولوجيات من مختلف دول العالم كأنطولوجيا القصة البرتغالية وأنطولوجيا القصة الإسبانية، ورَعَتْ في ورشتها براعم القصة المغربية، وأقامت لقاءات كثيرة جَمَعَت موادها في كتب. ثم «نادي الهامش القصصي» جنوب المغرب، الذي استطاع التعريف بمدينة هامشية صغيرة هي زاكورة، بعد عقْده لقاءات محلية وعربية أهمّها ملتقى السرد العربي، و«جمعية النجم الأحمر» بمشرع بلقصيري شمال المغرب، التي تنشطُ من خلال ملتقاها المهم وجائزتها التي تشجّع الشباب، وجماعة «الكوليزيوم المراكشية»، وجمعية التواصل بالفقيه بن صالح، والصالون الأدبي في الدارالبيضاء، الذي يهتم بالقصة القصيرة ويُنظّم الملتقيات ويمنح الجوائز. وتتّفق الدراسات النقدية المغربية بمُعظمها، على أن القصة في المغرب، قطعت مراحل ثلاثاً في تاريخها، أولاها مرحلة التأسيس التي كان موضوعها الأساسي هو الوطن، بحيث ظهرت القصة التي تمتح من التجربة المشرقية شكلها، وظهر مؤسسو النص المغربي أمثال: القطيب الثناني، عبد المجيد بن جلون، عبدالرحمن الفاسي، أحمد بناني. وتلتها مرحلة ثانية ارتبطت بالمناخ السياسي المحتدم حين تبنّى خلال الستينات والسبعينات معظم الكتاب رؤية إيديولوجية تتوافق مع مطامح الشعب إلى التغيير. ثم دخلت القصة المغربية خلال سنوات الثمانينات مرحلة جديدة يُعرّفها النقاد بمرحلة القصة التي تتأمل ذاتها. ولعل تجربة القاص أحمد بوزفور وبَعْدَهُ عبد النبي دشين ومحمد الدغمومي وأسماء كثيرة كانت رموزاً لهذه المرحلة التي ابتعدت عن الواقعية وعن حلم التغيير وانتبهت إلى جسد النص. ثم إن أهم مرحلة وصلت إليها القصة المغربية، هي ما تعيشه في لحظتها الراهنة، التي تمتد من سنوات التسعينات حتى الآن وهي مرحلة انتبه الكتّاب فيها إلى شخصية هذا الجنس، وعمدوا خلالها، إلى الاهتمام بروح النص والانتباه إلى الشعري والحلمي والغرائبي والاشتغال بقضايا الذات. واتّسعَت رقعة القصّ المغربي فكتب خلال سنوات التسعينات قصاصون كثر مثل حسن رياض، عبداللطيف النيلة، لحسن باكور، شكير عبد المجيد، شكيب عبد الحميد، أنيس الرافعي، سعيد منتسب، عبد المجيد الهواس، أحمد شكر، محمد اكويندي واللائحة طويلة جداً وتضاف إليها كل يوم أسماء جديدة من المدن الصغيرة والضواحي... وعرفت هذه المرحلة ظهور أسماء نسائية مثل ربيعة ريحان ولطيفة لبصير ورجاء الطالبي وعائشة موقيظ ومليكة مستظرف وحنان الدرقاوي وفاطمة بو زيان وتلتهن وفاء مليح ومنى وفيق وسعاد الرغاي. وقد أصيفت إلى أسماء نسائية كانت معدودة على رؤوس الأصابع هي زينب فهمي وخناثة بنونة وزهرة زيراوي ومليكة نجيب. ويبدو اليوم أن «تيار الحلم والعجيب» هو الذي يحظى باهتمام أكبر داخل الساحة الثقافية المغربية، وإن كانت عناصره لم تُستَنفد بعد، وكلمته لم يقلها، ومن أهم كتابه أحمد بوزفور، صاحب العمل الشهير «ديوان السندباد» وعبد المجيد جحفة صاحب مجموعة «فنطازيا»، وهو تيار يحاول أن يتأمّل الواقع المغربي الغريب من خلال كتابة تركّز على شعرية اللغة والتفاصيل والحلم والغرائبي وتستند إلى شخصية القصة المغربية والمكان والتقاليد في قالب فنّي متجدد يرى في تجربة أميركا اللاتينية أفقاً واسعاًَله... وخلال معرض الكتاب الأخير، لاحظ المتتبعون تراكم العديد من الإصدارات الجديدة لكتاب مغاربة عن دور نشر مغربية ومشرقية، مثل دار العين المصرية التي أصدرت مجموعة عمر ناسانا علوي «خارج التغطية»، وهي المجموعة التي احتلت مرتبة متقدمة في لائحة مبيعات الدار. القصة المغربية، اليوم، تسير إذاً، بخطى عريضة نحو خرائط جديدة وترسم بأناة ملامح شخصيتها التي لن تمحي، لكن مشاكل القراءة و النشر الحقيقية التي يعرفها الأدب المغربي، وقلة انتباه المؤسسات الثقافية الرسمية لهذا الجنس، تجعل من هذه التجربة التي بُنيت بأناة تسقط في مهب الاحتمالات.