قد ينتاب مطالع الصحف، ومشاهد التلفزة، الهلع، ويصاب بالغثيان، وقد يكون مصيباً، إن اعتقد، أن مأساة سورية لن تتوقف، وأن القادم سيكون أعظم. لقد اقتنع المواطن السوري، ومعه المواطن العربي، أن النظام لن يتراجع قيد أنملة عن مواقفه، وعن قناعاته بأن وجوده مصيري لهذا البلد، وأنه بالفعل قادر على إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل انتفاضة الشعب السوري. هناك، بالفعل، أدلة تؤكد أن النظام يحمل بقوة هذه القناعة، وآخرها، ما قاله الرئيس بشار الأسد، بأنه قابض على مجريات الأمور على الأرض، وأنه سيقبض على مجريات الأمور في الفضاء. هذه القناعة، ليست وهمية، بل لها ما يبررها، بعدما تبين انه قادر على تجاهل الصرخات الدولية، الطنانة، والمملوءة بالمعاني الأخلاقية، لكنها في حقيقتها فارغة، لا تقدم ولا تؤخر شيئاً على الأرض. وقد يتساءل كثيرون، لماذا كل هذا التساهل مع هذه الأزمة الإنسانية، المتزايدة في الاستفحال، والمؤلمة لأقصى الحدود، والتي نشاهدها يومياً أمام أعيننا، ولماذا يقف العالم مكتوفاً؟ وقد يتساءل: لماذا هذا الإصرار من النظام السوري على البقاء، ورفضه المساومة، والتسويات، في سبيل ضمان ليس فقط مستقبله بل مستقبل سورية؟ ثمة أجوبة سهلة يمكن استحضارها، وثمة أجوبة صعبة يمكن التعريج عليها، لتبيان حقائق السياسة الدولية، وحساباتها الجامدة. إن الأجوبة السهلة لا تحملنا على التفكير كثيراً، بل تحيلنا دائماً على يافطات اعتدنا عليها، مثل أن النظام تدعمه إسرائيل، وأن الغرب لا يريد أن يقف في وجه المصالح الإسرائيلية، أو أن الغرب يخشى من الأصولية، ولا يقدر على دعم معارضي النظام السوري، خشية أن يكرر السيناريو الأفغاني، أو أن الغرب يخشى الأكثرية السنية، وما قد تشكل من خطر على الأقليات، وعلى إسرائيل، وبالتالي يترك النظام السوري يدافع عن نفسه، وهو مدرك في قناعته بأن النظام قادر على البقاء بما يملك من أدوات القوة والدعم من بعض الدول الإقليمية والكبرى. هذه الأجوبة، اعتاد عليها الناس، وأصبحت، من شدة تكرارها، حقائق لا يمكن نقدها. أما الأجوبة الصعبة فهي التي تخترق الأجوبة السهلة، وتذهب إلى ما هو ابعد لتؤسس شرحاً أكثر جدية، وموضوعية لهذا التساؤل حول أسباب بقاء هذا النظام، ويمكن تلخيصها بخمسة أسباب: أولاً: إن النظام السوري، يمثل نقطة ارتكاز في السياسة الدولية، وقد أصبحت سياسته، على مدى عقود طويلة، متوقعة وتعرفها الدول الكبرى والإقليمية وترسم على أساسها حساباتها وسياساتها. وكمثال على ذلك، فإن النظام ليس متفقاً، بالمعنى الحرفي، مع إسرائيل، ولا متعاقداً معها، كما توحي الأجوبة السهلة، لكن سياساته تسمح لإسرائيل، عبر التحليل، بتوقع خطواته، والبناء عليها، ووضع سياسة مضادة تضمن أمنها، وتحفظ تفوقها المستقبلي. لقد حذر النظام السوري إسرائيل من أن امن حدود اسرائيل من أمنه، لكن تحذيره، على رغم لهجة التهديد، لم يقرع ناقوس الخطر في إسرائيل ولا في العالم، ذلك لأن قناعة قد تكونت، ولا يمكن العبث بها، بتصريحات عابرة من مسؤولين أو محسوبين على النظام. هذه القناعة تعطي الدول الكبرى نوعاً من الطمأنينة، في منطقة على فوهة بركان. حتى ينضج الربيع ثانياً: لقد أربك الربيع العربي، العالم الغربي، والدول الكبرى، بما فيها الصين وروسيا، لا سيما بعدما وصل الى السلطة إسلاميون، كانوا لسنين طويلة معارضين للغرب، وعدائيين من الدرجة الأولى لإسرائيل، ولا تعرف عنهم تلك الدول الكثير لترسم ملامح التعامل معهم، لا سيما في المرحلة الحساسة والقصيرة. واختارت تلك الدول الكبرى سياسة الجري مع التيار، فأيدت حق الشعوب بترشيح من تراه، لكنها، بدأت تدرس جدياً، سياسة التعامل مع القادمين الجدد، وتحتاج الى وقت كاف، للتوصل إلى قناعة جازمة، وسياسة متلائمة. هذا الإرباك، جعل الدول الكبرى، وبالذات الدول الغربية، تحرص على التباطؤ في الرد على الربيع السوري، بانتظار ما سيفرز ربيع مصر وليبيا وتونس، وما يمكن عقده من صفقات مع القادمين الجدد. وما لم يتمكن هؤلاء من عقد صفقات مع تلك الدول التي اجتازت ربيعها، فإن الغرب، لن يحرك إصبعاً ضد النظام السوري لأنه بذلك سيجعله يضحي بما هو معروف في سبيل ما هو مجهول. ثالثاً: المعارضة السورية التي لا تزال تعتبر، بقدر ما هي ضرورة، مشكلة كبرى، لصناع القرار في الغرب. هذه المعارضة التي استطاعت أن تلم شملها تحت مظلة المجلس الوطني السوري، وتمكنت بفضل التأييد الجماهيري من الحصول على الشرعية، لا تزال في نظر الغرب، غير قادرة على تسلم القيادة المستقبلية لسورية. هذه القناعة ليس مردها، عدم قدرة المعارضة، على رغم الأخطاء الكبرى التي وقع بها رئيسها ومجلسها التنفيذي، بل سببها أن تلك المعارضة لا تسيطر على مسلحي الأرض، ولا تستطيع ضبط حركة الشارع. فالغرب لا يريد أن يتعامل مع جسم سياسي تنقصه القدرة العسكرية، بل يريد التعامل مع جهة قادرة، ومعروفة، يمكنه التوصل معها إلى قناعات وسياسات قابلة للتطبيق مستقبلاً. هذا ليس متوافراً في المجلس الوطني السوري، ولا في جماعة أخرى، لذلك تجنح دول الغرب، بدلاً من الكشف عن قناعها الحقيقي، إلى جلد المجلس الوطني المسكين، وتحميله ما لا يمكنه حمله. رابعاً: تداخل الملف النووي الإيراني مع الملف السوري، وتضارب المصالح الإقليمية والدولية. هذا التداخل والتضارب كانا بمثابة قوتين تشدان بعضهما بعضاً في اتجاه معاكس، مما رشح ضرورة الانتظار وعدم اتخاذ قرار بالحسم. فالموقف العربي، ولنقل بدقة الخليجي، يرى أن انهيار الأسد يفتح الباب أمام بروز سد عربي قادر على مواجهة التمدد الإيراني بأبعاده السياسية والدينية. ويرى الموقف الغربي، أن دفع دول إقليمية باتجاه إسقاط النظام، وأخرى باتجاه حمايته سيؤدي حتماً إلى وقوع سورية في فخ الحرب الباردة، وتحول أرضها إلى حرب شرسة لا تخدم المصالح الغربية، ولا الروسية أو الصينية. فالغرب لا يريد حرباً بين دول إقليمية، ولا روسيا تريد حرباً تحرمها من مصالحها، ولا الصين تريد ذلك مخافة أن يؤثر ذلك في نموها الاقتصادي، طالما أن نفطها في معظمه يأتي من تلك المنطقة. في هذا السيناريو ليس غريباً أن نرى دولاً تطالب بتسليح المعارضة، وأخرى تدعم النظام، ودولاً ترى الانتظار؛ لكن هذا كله محسوب بدقة، ومرهون بقرار الدول الكبرى التي تفضل، حتى الآن، سياسة الانتظار. لا ضغوط في الغرب خامساً: غياب المؤثرات الضاغطة على صناع القرار في الغرب وفي عواصم الدول الكبرى. ففي روسيا والصين لا يمكن الحديث عن هذا العنصر، لأنهما دولتان مركزيتان، صناعة القرار فيهما مستقلة تماماً عن تأثير الرأي العام، بينما في دول الغرب، فإن العكس هو الصحيح. إن صناع القرار في الدول الغربية لم يجدوا الى الآن ضغطاً شعبياً، ولا يرون إمكانية حدوث ذلك، على رغم فظاعة ما يحدث. لقد اقتربت الثورة السورية من عامها الأول، ولا توجد تحركات جماهيرية، ولا مؤسسات المجتمع المدني، ولا حملة صحافية من النوع المهم، على رغم مقتل صحافيين، وجرح عدد آخر. هذا الواقع يسمح للقادة الغربيين بأن يمارسوا سياسة خارجية محسوبة بلغة الأرقام، ومبنية على مبدأ المكاسب والخسائر، وبعيداً جداً من عنصر الأخلاق وحقوق الإنسان. وقد يرى متابع هؤلاء القادة كيف يركزون دوماً على صعوبة التدخل العسكري، ويصرون على مبدأ حماية المدنيين ليس من خلال التهديد العسكري بل من خلال التهديد بمحاكمة الضالعين بجرائم ضد الإنسانية، ومن دون سقف زمني، بل وفق عبارة يرددها دائماً، رئيس وزراء بريطانيا، دافيد كامرون: «يوماً ما». هذا اليوم قد يأتي غداً، وقد لا يأتي، لأن المعيار هنا المصلحة وليس شيئاً آخر. ماذا يعني هذا كله؟ هل يعني أن الثورة السورية محكوم عليها بالفشل، وأن النظام السوري سيبقى بالقوة؟ بالطبع لا، أولاً: لأن تلك العوامل قد تتغير، بفعل عوامل غير متوقعة، أو بفعل معارضة واعية تحرك الأمور لمصلحتها، وثانياً، لأن الثورة، كما يعرف متابعو التاريخ، لا تخضع لمعايير ثابتة، ولا تسير وفق ضوابط، بل هي كالبركان تندلع، ولا يمكن إخمادها إلا عندما تستنفد طاقتها كلها. وكما يعرف كثيرون، فإن القمع، مهما كان وحشياً، يفقد مع مرور الزمن، كما يقول الفيلسوف البريطاني، برتراند رسل، تأثيره، ويصبح بحكم الممارسة، معتاداً لدى الناس، ولا يشعرون أمامه بالفزع ولا الخوف؛ وعندما يسقط حاجز الخوف، لا توجد قوة على الأرض تستطيع أن تقف في وجه الشعب، وسيستطيع هذا الشعب، مهما كانت قيادته عاجزة، أن يصنع قيادة جديدة، مجبولة بالألم، ومعصورة بمرارة التجارب، قادرة على حمل الرسالة وتحقيق النصر. إن للأمم حساباتها، وللشعوب حسابها، والتاريخ يعلمنا، أن الشعوب دائماً منتصرة وأن غدها سيكون مشرقاً. * كاتب لبناني مقيم في لندن