يجعل الانقسام الإثني والطائفي من حكم العراق واستقراره عملية في غاية الصعوبة، وتصبح الانتخابات، في غياب دولة المواطنة والمؤسسات وفي أجواء صراع الهويات الثانوية، أداة لصعود التيارات الطائفية والإثنية لسدة الحكم على صعيد المركز والإقليم والمحافظات، الأمر الذي كرس الانقسام بين مكونات الشعب العراقي إلى حد مطالبة البعض بالتقسيم. والتحول من الدولة المركزية إلى الفيديرالية باعتماد المعيار الإثني والطائفي يعني عملياًَ التقسيم، بينما اعتماد اللامركزية والفيديرالية على أسس إدارية واقتصادية يساعد على نمو البلاد وتطورها، على أن ينظر للمحافظة كوحدة إدارية يعيش فيها أي كان من مواطني العراق، ومن هنا تصبح الدعوة لإعادة رسم حدود المحافظات على أسس إثنية وطائفية دعوة إلى صراعات تكرس عدم الاستقرار، وربما الاقتتال والتقسيم. وفي غياب الاستقرار يصعب تحقيق النمو والرفاه الاقتصادي، الأمر الضروري لخلق بيئة صحية ومناسبة للتعايش السلمي بين العراقيين، فالفقر والاستقرار متناقضان. وقد كان ولا يزال غياب التيار العابر للطائفية والإثنية العقبة الأساسية أمام التحول الديموقراطي السلمي. فالتيار هذا لا يلغي الطائفة وإنما يعزز الانتماء العراقي أولاً من خلال تكريس المصالح الوطنية المشتركة. وهو يوفر الحماية ضد تهميش العرب السنة أو التركمان وغيرهما، كما يحمي العرب الشيعة من صراع المرجعيات وسياسات الاستئثار والكراهية باسم الدفاع عن الطائفة. فسياسة مد الجسور، وليس تعميق الخنادق، ضمانة العيش المشترك بين أبناء الشعب العراقي. وتنطلق الدعوة للتيار العابر للطائفية والإثنية من المصلحة المستنيرة والحاجة لبناء الثقة بين العراقيين، وذلك برفض مقولة المنتصر والمهزوم. فمن يريد تهميش السنة يرتكب ذات الخطأ الذي ارتكبه من همّش الشيعة في الماضي، ومن يسعى إلى استبدال «مظلومية» الشيعة بمظلومية السنة يزرع بذور فتنة قد تمتد إلى خارج حدود العراق. إن الانتخابات البرلمانية لعام 2010 أتاحت فرصة لقيام تيار عابر للطائفية متمثلاً ب «القائمة العراقية»، ولكن تجربة السنوات الماضية أثبتت فشلها عندما وضعت المصالح الفئوية والشخصية، بخاصة في ما يتعلق برئاسة الوزارة وتشكيلها، فوق المصلحة الوطنية، مع غياب رؤية عراقية واضحة، فضاعت «العراقية» بين ادعاء تمثيل مكون طائفي معين وبين عراقيتها، وانتهى الأمر بها إلى أن تفقد تمثيل الاثنين، وتنحسر قواعدها وينسحب العديد من نوابها وتنظيماتها الشعبية. لقد كانت أمام «العراقية» فرصة دخول الحكومة كشريك كامل مع «دولة القانون»، ولكن بعد أن دفعت الأخيرة بأحضان «التحالف الشيعي»، قبلت المشاركة بحصة متواضعة في حكومة مترهلة وضعيفة غير قادرة على الأداء. وسرعان ما تفجرت الاختلافات إلى أن وصلت إلى تعليق العضوية، ومرة أخرى خسرت «العراقية» فرصة لإعادة اكتشاف نفسها وترتيب بيتها، وذلك بانتقالها لصفوف المعارضة البرلمانية استعداداً للانتخابات القادمة. لكن عودة وزراء «العراقية» للحكومة دون أي إنجاز زادها ضعفاً وانقساماً. إن تخبط قيادات «العراقية» كرس الوضع الطائفي الراهن، وخدم خصمها الذي استفاد من تناقضاتها ليعمق الخلافات، مستفيداً من ماكنة السلطة إغراءً وترهيباً، فبرزت تنظيمات «عربية سنية» متحالفة مع السلطة «الشيعية» على حساب «العراقية» وقواعدها السابقة. وسمحت بعض قيادات «العراقية» لنفسها أن تتحول أداةً بيد القيادات الكردية القومية (بخاصة الديموقراطي الكردستاني) في صراعها مع الحكومة المركزية. وقد خدم تعميق الشرخ الطائفي بين شيعة العراق وسنته مَن يدعو إلى تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم: كردي وشيعي وسني، ويرى البعض من القيادات الكردية أن استقرار كردستان لا يستقيم إلا بمثل هذه المعادلة. واليوم أمام «العراقية» الخيارات التالية: 1-التفتت بانفراط عقدها لتنخرط أطرافها بقوائم انتخابية ثانوية أو مناطقية محدودة التأثير. 2-الانحسار إلى تشكيل قائمة عربية «سنية»، وقد تنجح في كسب عدد محدود من المقاعد ولكن تشكيلها يعني الفشل الكامل للمشروع «العراقي» الذي طالما تغنى به قادة «العراقية»، وبالتالي نصراً وتكريساً للانقسام الطائفي. 3-إعادة تشكيل «العراقية» باستعادة مشروعها العراقي بالتخلي عن العناصر السلبية فيها، والانفتاح على قوى وشخصيات جديدة حافظت على عراقيتها أمام التيارات الطائفية والإثنية، لتصب مرة أخرى في التيار العراقي العابر للطائفية من خلال تحالف انتخابي يضمها إلى جانب قوى اليسار والليبراليين وقوى الاعتدال الاجتماعية بخاصة بين المثقفين ووجهاء المجتمع العراقي. إن ساحة العمل السياسي في المحافظات الجنوبية لم تفرز تياراً مدنياً عابراً للطائفية، ولا تزال الأحزاب الإسلامية الشيعية تهيمن على الشارع الشيعي الذي بات أسير خطابها الطائفي، وهناك حالة من شبه فك الارتباط السياسي على الصعيد الشعبي بين أبناء المحافظات الجنوبية والمحافظات العربية السنية، الأمر الذي لا يمكن تجاوزه إلا عبر تيار عابر للطائفية. لقد جاء الإعلان عن تشكيل «التيار الديموقراطي» عام 2011 بادرة إيجابية تصب في الاتجاه الساعي لتجاوز الشرخ الطائفي، ولكن التحدي الأكبر «للتيار» في وضعه الحالي، كتحالف للحزب الشيوعي وأحزاب فرعية أخرى مع عدد مهم من المستقلين، هو إقناع الشارع بتميزه واستقلاله كائتلاف وإنه ليس واجهة للحزب الشيوعي أو أسير الموقف الكردي. كما أن عدداً من شخصيات «التيار» سبق وأن جرب حظه للوصول للبرلمان عبر تكتلات طائفية مختلفة، فما ضمان عدم تقلبه مرة أخرى وتعريض «التيار» لانقسامات قاتلة؟ إن تحالف «التيار الديموقراطي» مع «العراقية» الجديدة، بالإضافة إلى قوى الاعتدال الوطنية الليبرالية واليسارية الأخرى، بإمكانه أن يشكل التيار العراقي العابر للطائفية بما يحصّن استقلالية التيار بعيداً عن الاستئثار الشخصي أو الحزبي. وأهمية التيار العابر للطائفية تكمن في إعطاء الناخب العراقي فرصة حقيقية للاختيار بما لا يجعله محكوماً بالانتماء الإثني والطائفي، بحيث يكون الخيار يوم الانتخاب بين قائمة «شيعية» و أخرى «سنية» وثالثة «كردية»... ورابعة «عراقية». والباب لا يزال مفتوحاً لبلورة مثل هذا التيار شرط توفر مرجعية فكرية واضحة، مع قواعد للعمل المشترك تؤكد ديموقراطية اتخاذ القرار واعتماد الانتخاب في تشكيل القيادات بعيداً عن أي وصاية حزبية أو شخصية. والتيار هذا ليس حزباً بقدر ما هو ائتلاف انتخابي لقوى وشخصيات تلتزم قولاً وفعلاً برفض المنهج الطائفي والإثني في معالجة مشاكل العراق، كما أن دخول البرلمان ومجالس المحافظات أحد أوجه نشاطه، فإذا لم تتوافر فرص الأداء والعطاء الحقيقي وجب اعتبار مقاعد المعارضة البرلمانية والشعبية الخيار المفضل على المشاركة في وزارة غير فاعلة. فالمعارضة البناءة ضرورة لنجاح العملية السياسية الديموقراطية. إن الزمن ليس بالضرورة لمصلحة التيار الجديد، فتكلّس الحالة الإثنية والطائفية يجعل من الصعب تجاوزها، ليصبح العراق كالحالة اللبنانية التي لا يمكنها أن تلد تياراً عابراً للطائفية، كما أن التطورات في سورية وإيران وبعض مناطق الخليج تتجه نحو الاستقطاب الطائفي، الأمر الذي قد ينعكس سلباً على العراق ويعرقل مساعي النهوض العابر للطائفية فيه. * كاتب عراقي