في سعيها إلى تحقيق أكبر مقدار ممكن من التواصل بين جمهور «بستانها» والموسيقيين المشاركين في مهرجانه السنوي، تُركز ميرنا بستاني على مجموعة من المعطيات المهنية والفنية الضرورية لبلوغ النوعية العالية بالمقياس العالمي. فهي لا تتوقف عن زيارة المهرجانات الأوروبية وتعقب المواهب الصاعدة والواعدة على السواء، لكنها تولي مسألة مدّ الجسور بين جمهورها والمبدعين المتحدرين من أصول وجذور عربية اهتماماً خاصاً، فحيثما تحرّت عازفاً أو مؤلفاً موسيقياً تفوح من كنيته رائحة لبنان تراها «ألقت القبض عليه» وأعادته إلى منابع كيانه. وليس غريباً أن تؤتي عملية «القبض» هذه ثمارها إن بالنسبة إلى الفنان الضيف أو الجمهور الذي طالما شعر بما يشبه النشوة لعودة المتحدرين إلى موطن أجدادهم، مما يسبغ على الاغتراب سمة اعتزاز وفخر عوضاً عن أسى الغربة. ويشارك في الموسم الحالي أربعة مبدعين من أصول لبنانية وجنسيات جنوب أميركية: البرازيلي جوزيه فغالي، عازف بيانو حقق شهرة عالمية واسعة طاولت أوروبا والأميركتين، وبدأت طلائعها بالظهور مذ كان في الخامسة من عمره حين لاحظ أهله براعته الفذة في عزف مقطوعات كلاسيكية لا يتمكن منها سوى المجلّون من البالغين. وكان في سن الثامنة حين شارك الأوركسترا السمفونية البرازيلية عدداً من حفلاتها. أكمل جوزيه دراسته العالية في لندن برعاية المايسترو كريستوفر إلتون في المعهد الملكي البريطاني. ومن هناك انطلق محلقاً بجناحي العزف الأوركسترالي والعزف المنفرد، وحصد باقة من الجوائز عن ضفتي المحيط. وفي «البستان» عزف فغالي مقطوعات مختارة للبرازيلي الكبير فيللا لوبوس إضافة إلى فصول من سمفونيات لبيتهوفن وشومن خالصاً إلى توليفة صهرت الموحيات الأميركو-لاتينية بالشأو العالي لموسيقى باخ مما ألهب إعجاب الجمهور فصفق له طويلاً. ومن المكسيك تألقت منشدة السوبرانو أوليفيا غرة التي اختارت مقطوعات رائجة ذات مرجعية موثوقة وطعّمتها بأغانٍ شعبية عالمية الشهرة، لادراكها تنوع أذواق الجمهور وضرورة إحكام السيطرة على شغفه، فأخذت من «مدام باترفلاي» لبوتشيني «آه يا أبي العزيز» (أوو ميو بابينو كارو) ومقطوعات متجانسة في المدى والمدة لفيردي ومؤلفين من أميركا اللاتينية، فحافظت بصوتها الدافئ وبراعة أدائها على إصغاء متكامل، حتى اللحظة الأخيرة. وللمرة الثانية في مهرجان البستان، التقينا البرازيلية ليندا بستاني: عازفة بيانو حازت جائزة مهرجان لشبونة وهي في الخامسة عشرة من عمرها ودرست على يد المايسترو أورلاندو إيستيريلا، لكن مدير كونسرفاتوار تشايكوفسكي في موسكو، ياكوف زاك، سرعان ما أقنعها بالسفر إلى روسيا ومرافقة إحدى الفرق السمفونية الأكثر شهرة في العالم حيث حصلت على عدد من الجوائز، قبل أن تستقل في اختيار مكان وزمان عزفها. وبصوت خافت وحياء شفيف حيّت ليندا جمهور البستان معربة عن سعادتها بالعودة إلى موطن جدودها، ثم تحدثت باقتضاب عن المؤلف الموسيقي الألماني روبرت شومان (1810 – 1956) من حيث كون موسيقاه شعراً أو رحلة مع الشعر وما لبثت أن برهنت القول بالأداء فجاء عزفها لل «فانتاستيك» قصيدة تأرجحت بين الوئيد والصاخب في تناسق على جانب موغل في الدقة والاحتراف، وهكذا استمرت في أداء الفالس البرازيلي لفرانسيسكو مينيونه ومقدمة إرنيستة نزاريت، إضافة إلى مقطوعات محببة لدى الجمهور في كل مكان، في الفصل الثاني، لشوبان. أخيراً، في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، يختتم المهرجان متحدر آخر من أصول لبنانية هو عازف البيانو المكسيكي موريسيو نادر، خريج المعهد العالي للموسيقى في العاصمة المكسيكية وجامعتي هيوستن وإيستمان كوليج في الولاياتالمتحدة الأميركية. من مواليد 1967 ولكن إنجازاته الواسعة جعلت منه موسيقي الدولة بامتياز فتبوأ مناصب التعليم العالي وعزف لكل رئيس وملك زار المكسيك في السنوات القليلة الفائتة.